هل الدين أفيون الأمم كما قال ماركس، أم أن الدين ملح المجتمع، وجب رشه باعتدال حتى يصبح الطعام لذيذاً، ونظم الحياة مريحاً، وإلا أصبح ضد الحياة؟! ومن تجربتي مع المتشددين أظن أن أفضل شيء فعلوه، أنهم قربوا إلى أذهاننا خرافة الدولة الإسلامية، حين يصبح الدين تنطعاً وقساوة وعدوانية وتسلطاً وإغلاق منافذ الفهم الستة. هل الدين كارثة عقلية كما يصورها جند الحداثة، أم أنه بوصلة للاتجاه، وضبط لأخلاق العامة لا غنى عنه، بالصدق والدأب وقوة الإنتاج، كما ذكر ذلك محمد إقبال في كتابه "تجديد التفكير الديني"؟ المشكلة ليست هنا، بل محاولة تقصي أمرين؛ سر انحطاط الأمة الإسلامية مع أنها تصلي الخمس وتصوم رمضان وتحج البيت العتيق... وهل هذا له علاقة بهذا؟ والأمر الثاني متى وكيف بدأ الخلل؟ أذكر أنني تناقشت مع جماعات السلفيين من تلاميذ الألباني عشر ساعات بدون كلل، وكان برفقتي بكري النحاس، ونحن نضع جملة واحدة للنقاش؟ لماذا تقدم الغرب بدون كتاب وسنة، وتأخر المسلمون مع حملهم للكتاب والسنة؟ وتفرع من هذا النقاش هل الغرب متقدم ونحن متخلفون؟ ثم ما هو مقياس التقدم والتخلف؟ وهي نفس الإشكالية التي وقع فيها سيد قطب حين كتب "نحو مجتمع إسلامي متحضر"، ثم شطب كلمة متحضر، لأنه حسب قناعته أن مجرد كلمة مجتمع إسلامي تعني تلقائياً التحضر، وهو وهم أشعب، مما جعل مال مالك بن نبي يعلق على ذلك؛ إنها آليات اللاوعي الرافضة للحضارة المعاصرة.. وهي نفس الجدلية التي قال عنها توينبي حول الاتجاه الهيرودوتي والزيلوتي في مواجهة اليهود القديمة لروما. الكاهن "جان مسلييه" كفر بالصلب والمصلبة والمسيحية والكنيسة، وقد عمد بعد أن خدم الكنيسة ثلاثين عاماً، أن أخفى عهده الجديد حتى يطلع عليه أهل الأبرشية بعد دفنه، فلما مات دفنوه بإجلال ثم فتحوا أوراقه ليقرؤوا وصيته فصعق القوم، وأرادوا التكتم على ما جاء فيها، لولا أن الرجل كان قد وزع نسخاً أخرى منها، فنبش القوم قبره ولعنوه وتبرؤوا منه، وحتى فولتير الجريء لم يستطع نشر كامل الوثيقة لسمية الإلحاد الوارد فيها. لكن البعض رأى أن "أوروبا تقدمت عندما تركت دينها هي وليس "الدين"، وأن العالم الإسلامي تأخر عندما انفصل عن مفاهيم دينه الرئيسية، وأن التأخر بفعل التاريخ، ذلك أن "التأخر والتقدم الحيويين المنطقيين لأمة عمرها 1400 عام تعمل بالضبط كما يعمل القلب، نبض وراحة، فإما خلل في النبض وإما خلل في الراحة، لكن مرحلة الركود الأساسية دخلناها مع استحكام النظرات والنظريات التركية في البلاد، ولا أقول العثمانية". وما حصل أن أوروبا تركت دينها وكل دين، وأصبح العقل دينها، والعلم ديدنها، وأن الجمود الذي ضرب العالم الإسلامي لم يبدأ أيام بني عثمان، بل أبكر بكثير، أيام زمن المتوكل، حين أقفل باب الاجتهاد، فلم يبق دين ولا أمة، بل طقوس ميتة واستبداد قاتل. والمرض الذي يضرب مفاصل كل العالم الإسلامي اليوم بنفس النوعية واختلاف الدرجة مشى بثلاث مراحل: اغتيال العقل السياسي على يد بني مروان بانقلاب عسكري مسلح بدأ من معركة صفين. ثم انقلاب عقلي باغتيال العقل الإسلامي ومطاردة أصحاب المدرسة العقلية على أيدي أتباع المدرسة النقلية، ما سموا أنفسهم أهل السنة والجماعة. ثم جاءت الكارثة العظمى التي كللت الأولين بدخان عظيم، حين ضرب المجنون الإيطالي كولومبس ضربته، باكتشاف العالم القديم فحبس العرب في قمقم المتوسط، وانتقلت الحضارة والمال والعلم إلى حافة الأطلنطي عند بوسطن، والله وارث الأرض ومن عليها، كما كان يقول ابن خلدون وهو يرى ملامح انطفاء العالم الإسلامي.. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث.