تناولت في مقالة الإسبوع الماضي خيارات باراك أوباما في منطقة الخليج العربي. وسأتناول في هذه المقالة الصراع العربي الإسرائيلي، وتحديداً ما يعرف بـ"عملية السلام". والسؤال الذي يبرز مباشرة هنا: هل ستختلف إدارة أوباما عن الإدارات السابقة في موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي، ومن "عملية السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ ماذا سيكون موقف الإدارة الجديدة من مبادرة السلام العربية؟ وكيف ستتعامل هذه الإدارة مع فكرة "الدولتين"؟ وماذا يمكن أن يكون موقفها من "حماس"، إحدى أهم قوتين سياسيتين على الجانب الفلسطيني، في إطار صراع الأخيرة مع "فتح"، القوة الأخرى؟ كان موقف الإدارات السابقة في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية يرتكز على فكرة مؤداها أن سير المفاوضات ومصيرها النهائي مرهون بمرئيات وأهداف الطرف الإسرائيلي، وبمعزل عن مرئيات ومصالح الطرف الفلسطيني. وقد شكل هذا الموقف غطاءً للسياسة الإسرائيلية تجاه ما يعرف بعملية السلام. وهي سياسة تنطلق من قناعة راسخة بأن التوصل إلى سلام مع العرب، والفلسطينيين تحديداً، في المرحلة الحالية ليس من مصلحة إسرائيل. يرى الإسرائيليون أن عامل الزمن حتى الآن بقي إلى جانبهم وليس إلى جانب العرب. فالعرب، ومنهم الفلسطينيون، هم الذين حتى الآن يخسرون سياسياً بالإضافة إلى خسارة مزيد من الأرض. وآخر هذه الخسائر انقسام الفلسطينيين أخيراً بشكل يبدو مستعصياً على الحل. ليس من مصلحة إسرائيل، كما ترى القيادات الإسرائيلية المتعاقبة، التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين قبل الحصول على تنازلات تؤمن ثلاثة أهداف إسرائيلية: التخلي عن حق العودة جملة وتفصيلا، والمحافظة على القدس عاصمة موحدة للدولة العبرية وعدم السماح بتقسيمها مرة أخرى، والمرونة في موضوع الإنسحاب إلى حدود 1967، وذلك في محاولة للاحتفاظ بأكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية. من دون تحقيق هذه الأهداف لا ترى إسرائيل مصلحة لها في السلام، في الظروف الراهنة. لكن إسرائيل لا تستطيع بحكم الظروف الدولية، وملابسات الصراع الامتناع عن الدخول في مفاوضات لن تحقق لها ما تريد. ولذا اعتمدت آلية المفاوضات المفتوحة، أو المفاوضات من دون هدف معين، أو سقف زمني محدد. والهدف من ذلك كسب الوقت لاستمرار توسيع الاستيطان، وفرض سياسة الأمر الواقع، بأمل أن يحقق ذلك مع الزمن تطويع الموقف العربي، والفلسطيني بشكل خاص، ليكون أكثر استعداداً لتقديم التنازلات المطلوبة لتغيير الموقف الإسرائيلي من عملية السلام. وقد تمكنت إسرائيل من الاستمرار في هذه السياسة بفضل الغطاء السياسي الأميركي الذي وفّر لها حماية سياسية على المستوى الدولي، وربط مصير المفاوضات مع الفلسطينيين بسياستها وأهدافها، وقدم لها دعماً عسكرياً واقتصادياً غير مشروط، مكنها من أن تحتفظ بتفوقها النوعي على العرب، وخاصة الفلسطينيين. وهذا ما فعلته الإدارات الأميركية السابقة. الفرضية الأميركية هنا كانت ولا تزال أن مصلحة أميركا في الشرق الأوسط مرتبطة بأمن الدولة الإسرائيلية، وفقاً للتعريف الذي ترتأيه تل أبيب لهذا الأمن. هل ستختلف السياسة الأميركية في عهد باراك أوباما عن ذلك؟ وما هو حجم هذا الاختلاف؟ الحقيقة أن هناك ما يبرر الاعتقاد بأن أوباما قد يكون مختلفاً عن سابقيه، وقد يأتي معه بمقاربة سياسة مختلفة إلى حد ما، على الأقل، بالنسبة للشرق الأوسط. فالرئيس المنتخب يواجه أزمة مالية خطيرة تهدد الاقتصاد الأميركي، وبالتالي يحتل موضوع الداخل الأولوية القصوى لإدارته. وهو يأتي، ولأول مرة في التاريخ الأميركي، من طبقة السود، مما قد يجعله أكثر ميلا لمزاج هذه الطبقة وتوجهاتها، وهو مزاج أكثر ميلا لتفهم، وربما التعاطف مع تطلعات شعب يعاني تحت الاحتلال والتهميش لستين سنة الآن. كما يمكن القول بأن أوباما يأتي من خارج المؤسسة في واشنطن نظراً لحداثة خبرته السياسية، وقصر المدة الزمنية التي قضاها كسيناتور في واشنطن، وهي لم تتجاوز السنتين. ومن ثم فارتباطه بمكونات المؤسسة ومصالحها أقل ممن سبقوه إلى البيت الأبيض، الأمر الذي قد يوفر له مساحة أوسع للحركة، وقدرة أكبر على التخفف من قيود هذه المؤسسة، ومن ثم على إحداث التغييرات التي يطمح إليها، بما في ذلك موضوع السياسة الخارجية. بل حصل مؤخراً في إسرائيل ما يوحي بأن تغيراً طرأ على موقف بعض قيادات النخبة الإسرائيلية الحاكمة من الثمن الذي ينبغي لإسرائيل أن تدفعه للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. حيث أعلن رئيس الوزراء الحالي، إيهود أولمرت، مواقف لافتة لم يسبق لقيادي إسرائيلي على هذا المستوى أن تفوه بها من قبل. ومن أهم ما قاله أولمرت أنه لا يمكن التوصل إلى سلام من دون إعادة القدس الشرقية للفلسطينيين، والجولان للسوريين. المؤشر الآخر هو التراجع الكبير لحزب "العمل"، واستقالة بعض قياداته، مثل الرئيس السابق للأمن الداخلي، للانضمام إلى جهود تأسيس حزب جديد ذي توجه يساري يضم وجوهاً من حزب "ميريتس" وحركة "السلام الآن"، و"الخضر". هذه مؤشرات تشجع على الاعتقاد بأن المجال أمام الرئيس الأميركي الجديد، إذا أراد، أصبح يتسع لإحداث تغيير في موقف واشنطن من عملية السلام، وتحديداً من فكرة المفاوضات المفتوحة واللانهائية، وتحقيق شيء من الانفتاح الأميركي على عدالة المطالب الفلسطينية، خاصة بالنسبة للقدس والحدود النهائية للدولة الفلسطينية. مثل هذا الموقف يتطلب تخلي إدارة أوباما عن سياسة جعل مصير المفاوضات رهينة لسياسة التوسع الإسرائيلية. وهذا تغير يكسب الدور الأميركي شيئاً من المصداقية، ويمنحه فعالية أكثر للدفع بـ"عملية السلام" على مستوى المنطقة. هل مثل هذا التغير ممكن؟ رغم كل ما سبق يبدو أن التغير المتوقع من إدارة أوباما تجاه الصراع العربي الإسرائيلي سيكون في الأداء أكثر منه في جوهر السياسة. فأحد أهم مرتكزات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط هو التحالف الوثيق مع الدولة العبرية، وهو تحالف يقتضي الالتزام بأمنها، وعدم فرض سياسات عليها لا تتفق مع رؤيتها لهذا الأمن كما تراه هي. إلى جانب ذلك فإن الساسة الأميركيين جميعهم تقريباً مناصرون لإسرائيل. ربما قيل إن أوباما مختلف من حيث أنه لم يأت من النخبة البيضاء التقليدية التي تسيطر على الحكم في واشنطن. لكن ينبغي الالتفات إلى حقيقة أن أوباما ليس من خارج هذه النخبة أيضاً. فهو من أصل أفريقي، لكنه سياسياً وأيديولوجياً لا ينتمي إلى حركة الحقوق المدنية، بل إلى الأغلبية السياسية في النظام السياسي. الملاحظة الثانية أن أغلبية الفريق الذي يعمل مع أوباما الآن كانوا من فريق الرئيس بيل كلينتون. ومعروف أن هذا الفريق هو المسؤول عن فشل عملية السلام. يأتي في هذا الإطار تعيين "رام إيمانويل" في منصب رئيس موظفي البيت الأبيض، وهو كان يحمل الجنسية الإسرائيلية. و يتمتع هذا المنصب بنفوذ كبير داخل الإدارة. بل إن الحديث يزداد في العاصمة الأميركية عن عودة نجوم "عملية السلام" السابقين، "مارتن إنديك"، و"دينيس روس"، وكلاهما من أقوى المؤيدين لفكرة عدم الضغط على إسرائيل تحت كل الظروف. وعودتهما، في إطار الاعتماد على جماعة كلينتون، هي عودة إلى المربع الأول في "عملية السلام". يبقى أن أكثر المؤشرات وضوحاً على توجهات الإدارة الجديدة في موضوع السياسة الخارجية، هو التعيينات للمناصب الرئيسية الثلاثة: وزارة الخارجية، والدفاع، والأمن القومي. وهذه لم تعلن حتى الآن. المرشح الأبرز للدفاع هو الوزير الحالي، روبرت جيتس. ومؤخراً بدأ الحديث عن ترشيح هيلاري كلينتون لحقيبة الخارجية. تعيين هيلاري في هذا المنصب مؤشر واضح على أن السياسة الخارجية لأوباما تجاه الصراع العربي الإسرائيلي لن يطرأ عليها تغيير ذو أهمية. فهيلاري تنتمي للخط السياسي التقليدي، ومعروفة بعلاقتها الوطيدة مع إسرائيل وجماعات الضغط اليهودية، إلى جانب أنها تطمح للترشح للرئاسة عام 2012. الحديث عن ترشيح هيلاري بعد تراجع الحديث عن ترشيح السيناتور الجمهوري، "تشاك هيغل"، يعني انتصار المدرسة التقليدية داخل الفريق الانتقالي للرئيس المنتخب أوباما. فهيغل معروف بموقفه المعتدل من العلاقة مع إسرائيل، والأكثر ميلا لإحداث تغيير في الموقف الأميركي من عملية السلام. في المحصلة ستأتي إدارة أوباما بمقاربات سياسية جديدة. التزام أوباما بالخط الأميركي التقليدي في الشرق الأوسط يعني أن شعاره عن "التغيير" موجه للداخل. هذا في حين أن أمامه فرصة لإطلاق ديناميكية جديدة في المنطقة تدفع باتجاه إعادة رسم خريطتها السياسية، وذلك من خلال التزام حقيقي ومتوازن بفكرة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس. من دون ذلك ستبقى "عملية السلام" كما هي، عملية بين قوسين.