هذه الأديان، الإسلام والمسيحية واليهودية، ثلاثة أديان سماوية تحمل في طياتها أفكاراً ومذاهب وطرقاً وقيماً ومبادئ تخدم الإنسان وحريته وقدسيته وتنظم حياته، كما أن هناك أفكاراً متطرفة تسجن حرية الإنسان وتريق دمهُ وتستبيح كرامته وتعتدي على سلامة حياته وجسده وتستعبدهُ باسم الدين والمذهب. وإلى جانبها توجد عقائد غير سماوية تلعب دوراً كما تلعبهُ الأديان كاحترام الإنسان والأخلاق والقيم، ولا تخلو هي كذلك من تطرُّف. ومما لا شك فيه أن لكل دين وعقيدة ومذهب مَركباً في بحر الأطروحات والأفكار التي تدور حول الصراع والصدام وتضارب المصالح كما تتضارب الأمواج، ولكنْ هناك بحرا من الأفكار التي تدور حول الإنسان وإنسانيته، وتستطيع إرادة الإنسان أن ترسل مراكبها في بحر الإنسان وإنسانيته دَيدنُها في ذلك تحقيق السلام مهما اختلف الإنسان في الدين والمذهب والعقيدة والأيديولوجيا والمصالح والأهداف. هناك في هذا العالم أناس كُثر وعظماء الشأن رأوا أن السلام والتعاون والأمن ليس الهدف، بل يجب أن يكون الفاعل الرئيسي، فالأمم المتحدة مثلاً، بغض النظر عما حققته، هي في الأساس محركٌ للسلام والأمن والتعاون كما في المنظمات الإنسانية التي تحاول جعل الإنسان فوق كل شيء، فلا دين ولا حرية ولا عقيدة ولا أيديولوجيا من دون الإنسان وإنسانيته، التي تمتد من الولادة إلى الموت حاملة على احترام الجسد والعقل وترك حيز كبير للحرية. ليت العالم يكون بقلب الطفل، ذاك الطور البريء المسالم الذي لم يتملَّكهُ أي فكر متطرِّف، ولا يعلم سوى أنه إنسان صغير، لننظُر إلى الأطفال بغض النظر عن كونهم مسلمين أو يهودا أو مسيحيين أو بوذيين أو غيرهم، فلن نرى سوى إنسان في طور الطفولة، فهذا العالم الكبير في اختلاف الأفكار والمبادئ والقيم والمصالح يستطيع التوقف في مرحلة الطفل والحديث عن حقوقهِ ومتطلباتهِ وحماية جسدهِ، إنه الطور الأول للإنسان. وفي طور الطفل هذا، أسوق قصة إنسانية جميلة لها موقعها في هذا المقام. هناك حيٌّ سكني في دولة عربية جمع بين عائلتين مختلفتين في الدين، وإن كان مظهرهما الغربي يشير بأنهما إلى الليبرالية أقرب. غير أنها كانت مظاهر كاذبة، فقد حاول رب إحدى العائلتين ذات يوم تقويض التسليم بدين العائلة الأخرى، وهو الدين السائد في دولتهما بحديثه مع جارهِ، وكان أن تلقى صفعةً مدوية على وجههِ نظير ما جادل في مسلماتٍ لا تقبل الجدل، ولم يفلح الرجلُ في القصاص لأن الشرطة حمَّلتهُ المسؤولية بسبب التعدي على عقيدة الرجل، وهو ما كان سبباً في الرد بتلك الصفعة المدوية، وأخذت العائلتان تكنان الحقد لبعضهما واتخذتا من الشجاعة قطع الوصال الذي كان. ولكن ذات مرة رأى الرجل الذي تلقى الضربة طفل جارهِ في الشارع، وعندما مر بجواره سلم عليه الطفل، فتملَّكته عَبرةٌ لبراءة طفل يُلقي السلامَ تحيةً لشخص سبق لوالده أن صفعه. ولنا أن نتساءل ألا يستطيعُ الإنسانُ في الأطوار الأخرى من سِنيِّ حياته وَقْف تلك المنابع الفكرية والأطروحات والسبل التي تجعل الإنسان في صراع مع نفسه وفي بيئته الواحدة، ألا يستطيع إعلاء الإنسان الحقيقي، الذي يسعى إلى العيش في سلام؟ بلا إنه يستطيع ذلك عبر الإمعان في عقول أناس يقولون بأفكار طفولية عن السلام والأمن والتعاون، لأن الإنسان مختلف في أديانه وعقائده وأيديولوجياته ومتصارع في مصالحةِ وأهدافهِ ومتصادم في أطماعهِ، ولكنْ هؤلاء أطفالٌ بقلوبهم المشرئِبة نحو المستقبل، كبارٌ في فهم وإدراك واقع الإنسان وتاريخه من الخلق والحضارات إلى الدول إلى الإنسان وإنسانيته. لنأتِ إلى قوالب الإنسان اليوم من تجمعات قومية وحزبية ودول، فنرى في أحد القوالب أهمية التعاون عبر الدول في العلاقات الدولية، وبحكم اطلاعي على علاقات الصراع والتعاون والتنافس، فإنني أطرح حقيقة دولية، وهي أن الدول المتصارعة تستطيع أن تتعاون على ما تتنازع فيه فتحقق أهدافها وتحافظ على أمنها، فهناك شخصيات ومفكرون يُعلُون من شأن التعاون، ولكن النماذج قليلة في ذلك، ونسوق هناً مثالًا طريفاً في العلاقات الدولية عن دول نهر النيل، التي لو علمت كمية المياه المهدورة وإمكانية الاستفادة من المتاح منها لوجدت، أنه لا وجود لصراع، لأن التعاون وتنمية المورد يحقق أهداف ومتطلبات الدول، ولم نر أطروحة أو كتاباً في هذا الموضوع، إلا ويتحدث عن "صراع دول نهر النيل" رغم أن هناك قلةً من الباحثين يقولون إنهم يجهلون هذا الصراع فيما الناس في غيِّهم يتنازعون في نهر يلبي متطلباتهم التنموية والحياتية ولا يتعاونون لأنهم يجهلون. ولنعُد إلى الإنسان، أساس أي دولة أو تجمع اجتماعي، بل أساس عظمة هذا الكوكب، فهذه الأرض التي تضم في شموخها الجبال والبحار والقارات والأنهر والسماء، ويعلوها فضاءُ يحتضن الشمس والقمر والنجوم ومجرات وكواكب وعالماً نجهلهُ. هي أرض لا تعني شيئاً من العظمة لولا هذا الإنسان الذي يحيا ويموت ويفكر فيها وينمِّيها ويحقق استمرارية الحياة والتطور فيها. لن نستطيع أن نكون مثاليين ونحن غير واقعيين، فمن الواقعية اليوم التسليم بأن مصالح الدول والتجمعات البشرية القومية والعرقية في صراعٍ وتنافسٍ، وأحياناً كثيرة في صدام، بل ورغم التقدم الكبير في حقوق الإنسان في السلم والحرب مازالت هناك انتهاكات كالاتجار بالبشر إلى جانب تقييد الحرية والفكر والدوس على الكرامة، ناهيك عن الفقر والمرض والجهل والتخلف. ولكن لنسلمْ أيضاً بأنه يوجد بين بني البشر اليوم، بدولهِ وتجمعاتهِ ومنظماتهِ، من يهدف إلى إنسانية الإنسان في كل تجلياتها ويسعى إلى توفير الوسائل الكفيلة بتحقيقها على كل المستويات، حسبُهم في ذلك خدمة الإنسان من حيث هو إنسان، فليكن ذلك محفزاً ومحركا كبيراً للسلام والأمن، فإن لم نستطع ذلك، فليكن على الأقل مثبِّطا لحدة الصراع والحروب وانتهاك الطبيعة الإنسانية في السلم كما الحرب، فلا ريب أننا سنبلُغ بعد ذلك قَدْرا كبيرا من الإنسانية التي تستطيع تحقيق السلام، أي تحقيق الإنسانية أولاً وأخيراً. نريد قلبَ طفل وعقلا شيَّبهُ ما رأى في تاريخ الحياة على الأرض فاستنار بالعلوم والمعرفة وأدرك أن هذه الأرض لا تأتي عظمتها والحفاظ عليها إلا بالإنسان وإنسانيته، نريد هذا القلب وذاك العقل.