في الثامن من الشهر الجاري أعلنت القاهرة إرجاء الحوار الفلسطيني الذي كان مقرراً له أن يعقد في العاصمة المصرية بعد يومين من إعلان إرجائه. تبادل الطرفان المعنيان أساساً بالحوار -فتح وحماس- الاتهامات بخصوص المسؤولية عن هذه الانتكاسة الجديدة لجهود المصالحة بين الفصائل الفلسطينية. لم يلحظ أي منهما أن هذه الاتهامات تطولهما معاً، فكل من الطرفين يمعن في التنكيل بأنصار الآخر في الأرض التي يسيطر عليها مهما حاول أحدهما أو كلاهما إنكار ذلك. وكلاهما كذلك يضم أعداداً من المتشددين تكفي لعرقلة مسيرة الحوار، وهما معاً يعرفان ظاهرة "أمراء الحرب" الذين يتربحون ويكدسون الثروات من الوضع الراهن. وأخيراً وليس آخراً فإن كليهما يعمل في سياق رؤى إقليمية وعالمية لإدارة الصراع وإن تناقضت هذه الرؤى بطبيعة الحال بين طالب تسوية لا تجيء ومُصرٍّ على مقاومة لا تتم، والمحصلة النهائية أن الوحدة الوطنية الفلسطينية وقعت في يد من لا يرحم، أو على الأقل لا يفهم. غير أن كل ما سبق في تقديري يلخص العرض ولا يشخص المرض، وكلما أمعن "المناضلون" في التنكيل بقضيتهم وازدرائها وجد المرء لزاماً عليه أن يعيد طرح بعض الأسئلة الأساسية التي لا يريد أحد أن يطرحها، ولعل عدم طرحها هو السبب الأصيل في عقم كافة محاولات الخروج من الحلقة المفرغة للانقسام الفلسطيني، وإعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية حتى الآن. وأول هذه الأسئلة عن جدوى تجربة "السلطة الوطنية" في ظل الاحتلال التي بدأت مع اتفاقية أوسلو1993، فهذه التجربة لم تثمر لنا حتى الآن سوى خسارة أهم فصيلين من فصائل حركة التحرر الفلسطيني. تحولت "فتح" أولاً بموجب هذه التجربة إلى شرطة عازلة بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، قبل أن ينزلق بعض مسؤوليها إلى ممارسات مدانة كانت سبباً في التحول الكبير الذي طرأ على الرأي العام الفلسطيني في الانتخابات التشريعية لعام2006. ثم ركبت "حماس" الموجة نفسها، وفازت في الانتخابات التشريعية في ذلك العام، وفقدت أهم مقوماتها كحركة مقاومة مسلحة بعد أن أصبحت هدفاً سهلاً لقوات الاحتلال، وسرعان ما تحول مقاتلوها إلى شرطة مضادة لحركة "فتح" قبل إسرائيل وصولاً إلى الصدام فالانقسام المروع بين الحركتين في يونيو2007، وبينما تنخرط السلطة في رام الله في لقاءات منتظمة وحميمة مع المسؤولين الإسرائيليين لا تفضي إلى أي شيء، وتدخل "حماس" وغيرها من الفصائل في تهدئة رسمية مع إسرائيل دون أفق استراتيجي واضح فإن الطرفين الفلسطينيين يعجزان على نحو متزايد عن مجرد أن ينظر كل منهما في وجه الآخر، ولم يعد بمقدورهما سوى تبادل الاتهامات والسباب، فيما إسرائيل تعربد في دار الحرب والسلام معاً. تبدو تجربة "السلطة الوطنية" في ظل الاحتلال خصماً هائلاً من رصيد حركة التحرر الفلسطيني بل وتقويضاً لها، غير أن المنتفعين بها يقولون: كيف يعيش الشعب الفلسطيني في غزة والقطاع دون سلطة تدبر له حياته اليومية، والرد للأسف أنه كان يعيش حياته اليومية هذه سنوات طويلة في ظل الإدارة المباشرة من قبل الاحتلال متجرعاً مهانته ومعانياً من وحشيته، لكنه لم يتذوق في تلك الأيام مرارة القتل والاعتقال على أيدي أبنائه. وإذا كان من الحقيقي أن الاحتلال يبقى احتلالاً فإن مشكلة تجربة "السلطة الوطنية" أنها لم تقدم خطوة واحدة في الطريق إلى الخلاص منه. أترانا بعد هذا كله نعجز عن التفكير في بديل لهذه الفكرة العقيمة التي لم تورثنا إلا مزيداً من الهوان مع إسرائيل وفيما بيننا؟ يدفعنا ما سبق إلى الدعوة إلى أن تكون الأولوية في الحوار المنشود لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية التي رعاها النظام العربي الرسمي منذ نشأتها في قمة الإسكندرية1964 وصولاً إلى أن أعطاها وحدها صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط1974، وهذا الممثل الشرعي والوحيد لا يمكن ألا يعكس في تكوينه القوى الجديدة التي استجدَّت في الواقع الفلسطيني بعد ذلك التاريخ وعلى رأسها "حماس"، ومن شأن إعادة بناء المنظمة بحيث تكون معبرة عن الواقع الفلسطيني الحقيقي أن يوفر للنضال الفلسطيني بوصلة سليمة تحكم حكماً صائباً على تجربة السلطة الوطنية، فترشدها أو تتخلى عنها لصالح استراتيجية جديدة يصبح فيها الفلسطينيون المقاومون مسؤولين عن النضال من أجل التحرير، وليس عن أمن إسرائيل، أو القضاء على خصومهم من المقاومين المناوئين لهم سياسياً. وقد ينتهي الأمر على سبيل المثال إلى قرار بإعادة الرأس الفلسطيني إلى خارج أراضي ما يسمى بالحكم الذاتي كي تكون قادرة على قيادة النضال الفلسطيني وفق استراتيجية محددة من خلال إجماع وطني فلسطيني بعيداً عن أية ضغوط إسرائيلية أو غير إسرائيلية. يبقى بعد ذلك بعض الأسئلة المهمة لطرفي الصدام الفلسطيني الحالي: هل المشروع السياسي لكل منكما أغلى عليه من مشروع تحرير فلسطين؟ بمعنى أن تكون الإمارة على غزة أعز من تحرير فلسطين وكذلك حكم الضفة؟ ولو كان الأمر كذلك فلنسقط كل حديث عن الانتخابات لأن "حماس" لا يمكنها أن تقبل انتخابات تطيح بها من السلطة في غزة، وكذلك لا يمكن لـ"فتح" أن تفعل الشيء نفسه إن كان سيؤدي إلى خروجها من السلطة في رام الله. ومن هنا فإن الأمل في أن تحل آلية الانتخابات الموقف الراهن محدود، على الأقل لأن أحد الطرفين رافض لها، وحتى إن أجريت فإن الأمل قليل للغاية في أن تنجح في الخروج من المأزق الراهن، ذلك أن انتخابات2006 أفضت إلى الصدام المسلح المروع بين الفصيلين في يونيو2007 مع أن خلفية العلاقات بينهما لم يكن يشوبها في ذلك الوقت سوى الخلاف في وجهات النظر، فما بالنا بما سيحدث لو أجريت انتخابات جديدة فاز بها أي من الطرفين على خلفية الدماء التي صبغت العلاقات بينهما منذ2007 وحتى الآن. بل إن الانتخابات قد لا تفعل سوى أن تعيد لنا إنتاج الوضع الراهن في شكل رئاسة لـ"فتح" وأغلبية تشريعية لـ"حماس" أو العكس، أو انفراد أحد الفصيلين بمنصبي رئيس السلطة ورئيس الوزراء في الوقت نفسه. ولن نتصور مدى الجريمة التي يرتكبها الجميع بحق فلسطين إلا عندما نتذكر أن كل هذا يجري بينما أبناء غزة يموتون من وطأة الحصار وأبناء الضفة ما زالوا يتعرضون للتنكيل على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية. ولن يكون ممكناً الخروج من هذا الموقف المهين إلا بإحدى آليات ثلاث: إما أن تسود صحوة ضمير لدى المعتدلين من الفريقين فيتنادوا إلى كلمة سواء، وإما أن تسحب قوة ثالثة فلسطينية -ينضجها الهوان الراهن- البساط من تحت أقدام الفصيلين المتناحرين، وإما حوار جاد حول القضايا الكبرى للنضال الوطني الفلسطيني. وظني أن كلاً من هذه الآليات الثلاث غير ممكن التحقق في الأمد القصير إلا إذا مارس النظام العربي ضغطاً قوياً على الفريقين المتحاربين، لأنهما أمعنا حتى الآن في الاستخفاف بالحقوق الأصيلة لشعب فلسطين، وبقية المعضلة أن هذا النظام يبدو في الوقت الراهن عاجزاً أو منشغلاً عما يجري على أرض فلسطين بمسائل أخرى أكثر أهمية.