من حق الديكتاتوريات العربية أن تشعر بالأمان: فقد مرت زوبعة الديمقراطية بـ"سلام" وبأقل الخسائر الممكنة... وبسرعة مدهشة! والعالم الآن وفي المستقبل قصير وربما متوسط المدى لن يكون منهمكاً ولا مهموماً بمسألة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. ستعود الأمور إلى سابق نصابها، فوق السطح تقوم العلاقات والتبادلات والتفاعلات السياسية على المصالح البحتة والعارية، القائمة على الاعتراف والاحترام للوضع القائم أياً ما كان. وتحت السطح تواصل "طبائع الاستبداد" العربية اشتغالها التقليدي حيث فردانية الحكم تسير جنباً إلى جنب مع قمع الرأي العام. في ما بعد حقبة جورج بوش، غير المأسوف عليها، هناك مجموعة من التطورات المهمة التي تشكلت أو هي قيد التشكل ستحدد وجهة السياسة الدولية بصفة عامة، وانعكاساتها على الأجندات العالمية والإقليمية بما في ذلك مشروع أو مشاريع الدمقرطة بصفة خاصة. التطور الأول هو بالطبع غياب إدارة بوش نفسها التي تبنت مشروع نشر الديمقراطية في العالم العربي، وأثارت العاصفة التي أربكت في بداياتها بعض الأنظمة العربية، لكن تبدَّى في وقت قصير أنها عاصفة محدودة الأجل وبالإمكان التعامل معها. وفي كل الأحوال، ليس الهدف هنا تقييم ما حصل، بل التقاط ما هو جديد. الإدارة الأميركية "الديمقراطية" الجديدة ستحاول الابتعاد عن كل الأفكار والسياسات التي ارتبطت بحقبة جورج بوش سيئة الصيت. إضافة إلى ذلك فإنها تتسلم، وعلى مستوى الشرق الأوسط وحده، أجندة مثقلة بالقضايات الملحة وذات الأولوية الضاغطة (العراق، أفغانستان، القاعدة، القضية الفلسطينية، دور الشرق الأوسط في إنقاذ الاقتصاد العالمي... الخ). وهكذا فإنه ليس من المتصور أن تحتل مسألة "الدمقرطة" موقعاً متقدماً في أجندة أوباما الشرق أوسطية. التطور الثاني العالمي هو تواصل صعود روسيا والصين والتحدي الذي يطرحه كل من البلدين على الولايات المتحدة بشكل خاص وعلى الغرب عموماً، والمنعكسات على "النموذج الديمقراطي الغربي". القوة والنفوذ الروسي والصيني المتباعد والمختلف يتخطى مجالات السياسة والقدرة العسكرية والإمكانيات الاقتصادية. فبالتوازي مع هذه المجالات يطرح البلدان "نموذجين" في التسيس: "الديمقراطية السيادية" كما تحاول موسكو التنظير لها، و"الليبرالية الاقتصادية من دون ليبرالية سياسية" بحسب "النموذج" الصيني. "الديمقراطية السيادية" تعني ضمن أشياء كثيرة، وبحسب المفهوم الروسي، عدم السماح للأطراف الخارجية بالتدخل في العملية الديمقراطية الداخلية، من خلال دعم بعض الأحزاب، أو التأثير في الإعلام، أو الضغط عن طريق منظمات حقوق الإنسان وسوى ذلك. لكن خلف هذه الادعاءات المقنعة والمعقولة نظرياً ما يقوم على الأرض في حقيقة الأمر هو نظام الحزب الواحد، وسيطرة الرجل القوي فلاديمير بوتين، واستبداد أجهزة الأمن. لكن بعيداً عن التنظير الخارجي، وعلى نطاق الرأي العام الروسي، هناك رضا متزايد عن الصيغة (الأتوقراطية) التي هندسها بوتين، وعن أداء السياسة الروسية بكونها في المخيلة الشعبية والعامة أعادت الاعتبار والاحترام العالمي لموسكو. وفي الصين هناك جهد ضخم قومي لإعادة موضعة هذا البلد العملاق على خريطة القوى العالمية المسيطرة. ومن ضمن هذا الجهد تسويق الصين كقوة عظمى متعددة الأوجه، لكن من دون "الاضطرار" لـ"تقليد" الغرب في تبني "الديمقراطية الليبرالية". والمفارقة الكبيرة في الصين اليوم هي وجود حزب شيوعي قوي يحكم البلد بمركزية واستبداد بالغين و"ناجحين"، لكن من دون وجود للشيوعية نفسها. وما تسوّقه الصين للعالم الخارجي هو مقولة إن الديمقراطية ليست مطلباً شعبياً داخلياً كما يحب الإعلام الغربي أن يصور الأمر. فبحسب بعض مسوحات الرأي فإن ما يقارب 80% من الصينيين راضون عن أداء الحكم في بلادهم (مقارنة بما لا يزيد على 20% في الولايات المتحدة على سبيل المثال!). ما يطرحه هذان "النموذجان" عالمياً وعربياً، وبشكل يُوظف إلى أبعد مدى من قبل الأنظمة الاستبدادية عربية كانت أم غير عربية، هو مسألة "عدم مركزية" وعدم "إلحاحية" الديمقراطية، وأنها ليست "المسار الوحيد" بدليل وجود مسارات سياسية- اقتصادية- اجتماعية أخرى في العالم أثبتت نجاحها على صعد مختلفة. هذا التفسير لـ"تعدد المسارات" هو في جوهره البدهي دفاع عن الديكتاتوريات والأنظمة المُستبدة، خاصة في بلدان العالم الثالث التي يُضاف إلى فشلها السياسي وتغييبها للديمقراطية فشلها في اجتراح "معجزات" اقتصادية تعوّض ولو نسبياً على أقل تقدير الفشل السياسي وديمومة الاستبداد. وما يتجاوزه ذلك التفسير المبتسر، والاحتفاء المشبوه بـ"تعدد المسارات"، واقع أن الإنجاز الكوني الأهم للديمقراطية الليبرالية يكمن في توفيرها مناخات التقدم الاقتصادي، والاجتماعي وغيره، جنباً إلى جنب مع تصاعد وازدهار فكرة وممارسة الحرية، وليس على حسابها. قد يتمكن الاستبداد من تحقيق "معجزات" في بعض الأحيان: فمن أهرامات فراعنة مصر، إلى المشاريع الاستبدادية الجبارة في القرن العشرين (النازية، والسوفييتية، والماوية) هناك تجارب لا تحصى تشير إلى قدرة الأنظمة الأوتوقراطية على تحقيق مكتسبات هائلة. لكن تلك المكتسبات كانت وما تزال تتحقق في مناخ من الخوف والسيطرة والإكراه الفوقي، وليس في مناخ من الحرية والكرامة والاختيار. وفي معظم، إن لم يكن كل، الحالات التي فقدت فيها آليات السيطرة قدرتها الجبروتية على الاستمرار في فرض النظام للسير وفق "البرنامج" المقر مسبقاً، فإن "الانجازات" سرعان ما تبدأ في التبدد التدريجي، إن لم يكن السقوط المدوي دفعة واحدة. والحال أن طريق الاستبداد في البناء والتنمية ربما كان مختصراً و"أقل صداعاً"، كما يتم التنظير أحياناً كثيرة، مقارنة بطريق الحرية والديمقراطية الذي يحتاج إلى صبر طويل وبناء متدرج، وقبول بالأطراف الأخرى إلى درجة معيقة أحياناً لمسيرة التقدم والإنجاز نفسها. لكن الطريق الثاني هذا هو الأكثر رسوخاً والأكثر صلابة وإنسانوية رغم ما قد يظهره من هشاشة ظاهرية. والاستبداد يتصف تماماً بعكس ذلك فهو وإن كان الأكثر وحشية إلا أنه الأكثر خفة وهشاشة، على رغم ما قد يتبدى من خصائص جبروتيه تسمه. والتطور الثالث المهم الذي حدث على مستوى السياسة الدولية هو الأزمة المالية والاقتصادية التي لم يسبق لها مثيل، من جهة اتساع نطاقها العولمي ونطاق المتضررين بها. هذه الأزمة تعيد ترتيب الأولويات على الأجندة الدولية بحيث تصبح الأولوية الملحة هي إنقاذ الاقتصاد العالمي، وصياغة نظام مالي دولي يحقق أمناً مستقبلياً لحركة رأس المال، ويجنب العالم أية أزمة مستقبلية مشابهة. وهذه الأولوية تستلزم التعامل مع الأنظمة القائمة حتى لو كانت مستبدة، لأن المطلوب تحرك فوري وليس هناك مجال للمطالبات الترفيه بالدمقرطة أو اشتراطها كجزء من رزمة سياسات. وليس هذا فحسب بل إن حقيقة الأمر تشير إلى انعكاس في "ميزان القوى الاشتراطي" بين الغرب والدول العربية، ففي السنوات الماضية ربما كان بمقدور مسألة الدمقرطة التسلل إلى هذه الأجندة أو تلك، بشكل مباشر أو غير مباشر، أو على استحياء في غالب الأمور، وكانت الأوراق الأقوى في يد الدول الغربية (لأسباب مختلفة، إرهاب الحادي عشر من سبتمبر 2001، والشعور بموقف المدافع عن النفس، الخ). لكن الوضع الراهن تستطيع فيه الأنظمة العربية أن تفرض هي على الغرب "عدم الحديث مطلقاً في مسألة الديمقراطية" إذا كان الغرب يطلب تعاون هذه الأنظمة على أكثر من صعيد (المساعدة في إنقاذ الاقتصاد العالمي، "الحرب على الإرهاب"... الخ). وخلاصة ذلك كله تشير إلى أن "الحلم الديمقراطي" في العالم العربي سيواجه سنوات مظلمة قادمة. ففي غياب عوامل ضغط خارجي تدفع باتجاه الدمقرطة العربية، فإن القوى الداخلية ضعيفة ومشتتة وعاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من الدمقرطة المأمولة. وإلى أن تتغير الأمور بقدرة قادر لنا أن نعزي أنفسنا ونقول: كل حلم ونحن بخير!