شهدت العقود القليلة الماضية تغيراً جوهرياً في الممارسات الطبية اليومية، نتج عنها تراجع دور المهارات الفردية للطبيب في التشخيص، وزيادة واضحة في دور الأجهزة التكنولوجية الحديثة. فقبل وقت ليس بالبعيد، كان المتاح لغالبية الأطباء من أجهزة، لا يزيد على سماعة كشف، وجهاز ضغط، ومقياس حرارة، وجهاز أشعة عادية إذا ما كان يعمل داخل مستشفى أو مركز طبي كبير. أما الآن، فليس من الغريب أو غير المعتاد، أن يعتمد الطبيب في تشخيصه على أجهزة الموجات الصوتية، والأشعة المقطعية بالكمبيوتر (CAT Scan)، أو على أجهزة الرنين المغناطيسي (MRI)، أو على البت-سكان (PET Scan)، بالإضافة إلى كوكبة من المناظير التي تخترق جميع أجزاء ومناطق الجسم تقريباً، ناهيك طبعاً عن أجهزة التحاليل الطبية، التي تم تطوير جزء كبير منها ضمن أبحاث الفضاء، ويمكنها الكشف عن جزيء في المليون من معظم المعادن والمركبات والهرمونات والبروتينات. وهو ما أدى إلى أن طبيب القرن الحادي والعشرين، أصبح مدججاً بترسانة من الأجهزة والمعدات والمناظير والتحاليل، التي لم يكن ليحلم بها الجيل السابق من الأطباء، وقبل عقدين فقط من الزمان. ولذا يرى البعض أن دور الطبيب قد اتخذ شكلاً مختلفاً مؤخراً، حيث أصبح قريباً من دور مدير إدارة المعلومات، من حيث اضطلاعه بتحديد، وتنفيذ، وتجميع، ثم تحليل كم لا يستهان به من المعلومات الرقمية التي تنتجها تلك الترسانة من الأجهزة التكنولوجية بالغة التعقيد. وحتى هذا الدور، تنافسه فيه الكمبيوترات الحديثة، من خلال البرامج المتطورة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، والتي يمكنها تحليل جميع البيانات السابقة، للوصول إلى تشخيص سليم. هذا الاتجاه المتزايد في الوسط الطبي للاعتماد على التكنولوجيا، أصيب بنكسة بالغة بداية هذا الأسبوع، عندما أظهرت نتائج دراسة أجريت في أحد مستشفيات العاصمة البريطانية (London Chest Hospital)، أن واحداً من أكثر الفحوصات الطبية استخداماً لتشخيص السبب خلف الإصابة بآلام الصدر، التي يمكن أن تكون ناتجة عن الذبحة الصدرية، ليس ذا قيمة تذكر في التنبؤ باحتمالات إصابة المريض بالذبحة الصدرية مستقبلاً. وأظهرت الدراسة التي نشرت في إحدى أشهر الدوريات الطبية في العالم (British Medical Journal)، أن مهارات الطبيب الشخصية، وتقييمه المبني على الحصول على تاريخ كامل من المريض، بالإضافة إلى الفحص السريري، يعتبر من أدق السبل في تشخيص السبب خلف آلام الصدر الحادة، ومن أكثرها مصداقية في التنبؤ باحتمالات إصابة المريض بالذبحة الصدرية مستقبلاً. والفحص المعني هنا، هو رسم القلب (ECG)، الذي كثيراً ما يتم تنفيذه أيضاً تحت المجهود (Cardiac Stress Test). هذا الاختبار الأخير، الذي تم تطويره عام 1929، يهدف إلى قياس معدل تدفق الدم الشرياني إلى القلب أثناء القيام بمجهود، مثل الجري على المشاية الرياضية مثلًا، ومقارنته بمعدل تدفق الدم إلى القلب أثناء الراحة. ويمكن لهذا الاختبار الكشف عن وجود اختلال في تدفق الدم إلى أنسجة البطين الأيسر المسؤول عن الجزء الأكبر من المجهود الذي يقوم به القلب لضخ الدم حول الجسم. ولذا توصي الجمعية الأميركية لأمراض القلب (American Heart Association)، بأن يكون رسم القلب تحت المجهود هو الاختيار الأول للمرضى المعرضين لبعض عوامل الخطر، المعروف عنها تسببها في الإصابة بأمراض الشرايين التاجية، مثل التدخين، والسكري، وضغط الدم المرتفع، وارتفاع مستوى الكوليسترول، ووجود تاريخ عائلي لضيق الشرايين التاجية. وكانت هذه هي الحكمة الطبية السائدة، إلى أن شرع القائمون على الدراسة السابقة في متابعة أكثر من ثمانية آلاف مريض لعدة سنوات، كان 60% منهم قد خضعوا لرسم قلب تحت المجهود بعد أن لجأوا إلى أطبائهم بسبب شعورهم بآلام حادة في الصدر. وكانت المفاجأة أن نصف من أصيبوا بالذبحات الصدرية من هؤلاء المرضى في السنوات اللاحقة، كان رسم القلب قد أظهر سابقاً خلوهم من أي مرض أو اضطراب حينها. وهو ما يعني أن نصف المرضى الذين أجري لهم رسم قلب بسبب شعورهم بآلام في الصدر، وأظهر الفحص خلوهم من أي اضطراب أو اختلال مثير للشكوك، أصيبوا لاحقًا بذبحات صدرية. ونسبة الخطأ هذه تزيد عن -أو تساوي على الأقل- نسبة الخطأ في توقعات الطبيب المستقبلية المبنية على التاريخ المرَضي والفحص السريري فقط، بالنسبة لاحتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية مستقبلاً. وهو ما يعني أن رسم القلب، ليس ذا فائد تذكر، أو هو ذو فائدة محدودة جداً في مثل تلك الحالات. بل على العكس، يمكن لهذا الفحص أن يكون ضرره أكثر من نفعه. ففي الحالات التي تعيش تحت سحابة من واحد أو أكثر من عوامل الخطر السابقة، كالمدخنين، أو مرضى السكري، أو مرضى ارتفاع ضغط الدم، أو ذوي الكوليسترول المرتفع، يمكن لنتيجة رسم القلب السلبية أن تمنحهم شعوراً كاذباً بالأمان من حيث احتمالات إصابتهم بالذبحة الصدرية مستقبلاً. فالمدخن، أو مريض السكري، الذي يجري رسم قلب تحت المجهود، وتأتي نتائج فحوصاته (سليمة أو طبيعية)، قد يتجاهل النصيحة بالتوقف عن التدخين، أو قد يهمل علاج مرضه، بناء على أن رسم القلب لم يظهر أي خلل أو اضطراب يدعوه للقلق. وفي مثل تلك الحالات يتجلي الدور الإنساني للطبيب، من حيث تقييمه العام للموقف، ثم شرح وتوضيح الوضع بدقة وبشكل شخصي مباشر للمريض، وهي المهام التي يعجز عن القيام بها أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة. د. أكمل عبدالحكيم Classifications