إيران والإخوان المسلمون لاعبان خطيران في المنطقة؛ إيران نجحت ثورتها واستولت على الحكم، والإخوان ينتظرون ثورتهم ويحلمون بكرسي السلطة بأي طريقة كانت، وهما يدركان تشابك المصالح بينهما ولذلك يتعاضدان، غير أنّ الإخوان ليسوا المرشد العام فحسب، بل هم منقسمون تبعاً لمصالحهم، فالتنظيم الأمّ في مصر ومعه التنظيم الدولي يقفان مع إيران لمصلحتهما المرتبطة بها، و"حماس" أيضاً، ولكنّ "إخوان إيران" بزعامة عبدالرحمن بيراني اتخذوا قراراً بمقاطعة التنظيم الدولي للإخوان بسبب عدم مساندته لهم ضد ظلم النظام الإيراني باعتبارهم جزءا من الطائفة السُنيّة المضطهدة هناك، وكذلك يفعل "إخوان سوريا" وظهر هذا في تصريحات علي صدر الدين البيانوني المرشد العام لإخوان سوريا، وليس بعيداً عنّا معركة الإخواني الكبير يوسف القرضاوي مع إيران وانشقاق الإخوان بين مؤيدٍ له باعتباره إخوانياً جلداً، وبين معارضٍ له من داخل التنظيم بل من قياداته. كي نرى الصورة بشكلٍ أكبر فمن المهمّ أن نفهم أنّ الصراع الكبير في الشرق الأوسط لم يعد مع إسرائيل وحدها، وإن بقي للصراع مع إسرائيل مجالٌ ما يختلف من بلدٍ لآخر، غير أنّ الصراع الكبير في هذه المنطقة اليوم هو الصراع بين الدول العربية من جهةٍ وإيران من جهةٍ أخرى. ومن المعلوم أيضاً أنّ هذا الصراع ليس وليد الليلة ولا البارحة بل هو صراعٌ طويلٌ ومرير. منذ مطلع الثمانينيات والحرب بين "دول الاعتدال العربي" من جهةٍ و"جمهورية الثورة الإسلامية" في إيران من جهة أخرى، في صدامٍ مستمرٍ، وفي مواجهةٍ حامية الوطيس، اتخذت أشكالاً متعددة، ولبست أثواباً مختلفةً، كان منها العقائدي المتطرّف، والطائفي الشرس، وحتى الدموي القاني، وامتدّت رقعة الصراع من آسيا الوسطى والهند وباكستان، وصولاً إلى لبنان مروراً بالمنطقة الفاصلة بين الشرق والغرب، بل إنّها تجاوزت ذلك إلى تحالفاتٍ عالمية، وحروبٍ إقليميةٍ، استخدمت فيها كل أنواع الدبلوماسية السياسية جنباً إلى جنبٍ مع القوّة العسكرية، وإضافةً إلى ذلك التحكّم في الشعوب والجماعات التي تمثّلها على الأرض والأفراد الذين يتمتعون بإقرارٍ بالزعامة من قبل هذه المجموعة أو تلك، وهذا الحزب أو ذاك. "اللاهوت" و "السياسة" كانا مجال الصراع وأدواته في ذات الوقت، وقد حقّقت الدول العربية الآنفة الذكر نجاحاً جديراً بالاهتمام في مواجهة ثورةٍ إيرانية طاغية، وتفاصيل ذلك الصراع والنجاح يطول ذكرها. غير أنّ المشهد قد تغيّر كثيراً منذ ذلك الحين، فإيران الثورة تحوّلت إلى إيران الدولة، مع كل ما يستتبع ذلك من احتواء تياراتها السياسية الداخلية داخل أجهزتها الحكومية والإدارية، مهما كان تطرّف هذه التيّارات، ولذلك ليس من العجب أن نرى "الجمهورية الإيرانية" تنتج في السينما والفنون والثقافة ما لا ينتج خصومها بعضه، وتعيش في استقرارٍ سياسيٍ غريب، ربما لا يكدّر صفوه إلا الضيق الاقتصادي الذي يكاد أن يخنق الطبقة الوسطى فضلاً عن الدنيا داخل إيران، والذي خرجت تصريحاتٌ من داخل إيران وبياناتٌ جماعية كلها تستنكر هذا الضيق الاقتصادي وتحمّل الحكومة الإيرانية الغارقة في أوهام الأيديولوجيا مسؤوليته. وبالمقابل، ولرصد الجهة المقابلة في هذا الصراع، فإننا نجد الدول العربية الكبرى قد انشغلت بشكلٍ مثيرٍ باستقرارها الداخلي وتوازنات القوى الداخلية فيها، ونأت عن قصدٍ أو غير قصدٍ عن الصراع الأكبر الذي تدور رحاه في المنطقة، وذلك دون شكٍ نذيرٌ شؤومٍ على المنطقة واستقرارها بأكمله. إنّ أحد الدروس المهمّة في هذا الصراع، هو أنّه لا يكفي أن تكون صديقاً لحكومات الغرب حتى يؤيّدوك في صراعك، إنّك بحاجةٍ قبل كل شيء إلى إقناعهم بمكانتك وقوّتك على الأرض ورؤيتك الشاملة لمواجهة هذا الصراع، ليس إقناع صانع القرار وحده، بل إقناع مستشاريه والدارسين في مراكز الأبحاث المستقلّة، والصحافيين المهتمين بشؤون المنطقة، وذلك لا يمكن أن يتمّ عبر دراساتٍ متكلّسةٍ تحكي رؤيةً متخلفةً عن ركاب العصر، بل يعني دعم مراكز أبحاثٍ مستقلةٍ، والتواصل مع الإعلاميين النابهين من داخل المنطقة ومن خارجها، والعناية بالدارسين المستقلّين، على أن يكون هؤلاء الدارسون المستقلّون قادرين على التقاط اللحظة العالمية الراهنة بكل توازناتها وخوض غمارها بذات الصراحة والمصداقية التي يخوضها بها الآخرون، مثل هذا النوع من الدراسات لم تأل إيران جهداً في دعمها والتحريض عليها لتأكيد رؤيتها، وتيسير كافة السبل للباحثين فيها، وذلك تماماً ما لا يصنعه خصوم إيران في المنطقة! للحقيقة، كان كلا طرفي النزاع يدعمان وبشكلٍ غير محدودٍ الجماعات المتطرفة التي تؤيدهما، والرموز التي تخضع بشكلٍ أو بآخر لتوجّهاتهما، غير أنّ الفرق الذي اتضح لاحقاً، واليوم تحديداً، هو أنّ الجماعات التابعة لإيران قد احتفظت إيران لنفسها بـ"الريموت" الذي يحرّكها، وعلى العكس كانت الجماعات على الضفة الأخرى من الصراع، فقد انفرط عقد سبحتها، فانتثرت على مساحة الصراع السابق، بل على مستوى العالم كلّه، وواجه الانضباط التامّ الذي تتبعه الجماعات الخاضعة لإيران انفراطٌ كاملٌ في الجماعات المناهضة لها، بل إن بعض هذه الجماعات قد عادت لتنكّل بالدول التي رعتها وأيّدتها، وخرجت تكتيكياً من الصراع الكبير، لتصبح لاعباً صغيراً ولكنه لاعب مضرٌ في اللعبة الكبرى في الشرق الأوسط. كان العراق أيّام صدّام رغم كل مساوئه هو "ناب" العرب خاصةً في الخليج في مواجهة الثورة الإسلامية وطموحاتها التي لا تعترف بالحدود، ولكن ناب العرب كسره حليف العرب الأول "الولايات المتحدة الأميركية"، وأصبحت دول الخليج بلا نابٍ يدافع عنها، ويرفع في موازين القوة الحقيقية أرصدتها، والأدهى والأمرّ هو أنّ هذا الناب قد انتقل بقضّه وقضيضه للضفّة الأخرى من الصراع، بناء على الذكاء الإيراني بعد سقوط بغداد والذي قابله برودٌ مثيرٌ للأسف في الضفة الأخرى. من إجل إعادة موازين القوى لوضعها السابق، فإن صفقات السلاح باهضة الثمن التي تعقدها دول الخليج منفردةً لن تعيد الأمر إلى نصابه بحالٍ من الأحوال. إن دول الخليج، والدول العربية التي تستشعر الخطر معها مثل الأردن ومصر وغيرهما، بحاجةً إلى استراتيجية عسكرية محكمةٍ تجعلها تستطيع مواجهة الخطر الإيراني منفردةً أو بالتحالف مع القوى الكبرى في المنطقة، ولكن بعيداً عن الاعتماد الكامل على التحالف مع دول الغرب، فإن القوى العظمى لا تساعد إلا من يستطيعون إثبات أنفسهم بأنفسهم، ومن يمتلكون بناء على خططٍ طويلة الأمد ما يحمي كياناتهم من العدوان ويُعرّف عدوهم أنهم قادرون على إيجاعه وبقوةٍ، وإلا فإن لنا في درس "جورجيا" ما ينبه النائم ويوقظ الغافل. دول الاعتدال العربي بحاجةٍ إلى إخراج كل التيارات في داخلها إلى السطح، وأن تسمح بالنقاش والجدال والحوار العلني فيما بينها، لا أحد يمتلك الحقيقة كاملةً، ولا الموقف الصائب كاملاً، فلتتناقش التيارات، وليتحاور الرموز، ولينتقي الساسة الأصلح والأحكم، وليرصدوا مراكز القوى وتوجهاتها، ليستفيدوا منها تارةً، وليوظّفوها في استراتيجياتهم تاراتٍ وتارات، بدلاً من الانغلاق على مجموعةٍ من المستشارين الذين يصيبون ويخطئون. إنّنا نعيش لحظةً تاريخيةً بكل المقاييس، فالدول والجماعات التي كانت مع دول الاعتدال ذهبت أدراج الرياح. ولدى دول الاعتدال العربي ما يمكّنها من إعادة الصراع جذعاً، وإعادة اللعب بموازين القوى على الأرض، غير أنّ ذلك يتطلّب تنسيقاً وتكاملاً أولاً، وعملاً وجرأةً على التأثير بكل تبعاته ثانياً، ومن دون ذلك سنظل جميعاً نراقب المشهد في المنطقة، دون أن يكون لنا تأثيرٌ فيه، فقط نترقّب القدر وننتظر ما يصنع!