تلقيت هدية من صديق برلماني مصري، يهب جزءاً كبيراً من نشاطه البرلماني لخدمة قضايا السلم والتعاون وحوار الثقافات في حوض البحر المتوسط والدول المجاورة له. صديقي يشغل منصب نائب رئيس الجمعية البرلمانية للبحر المتوسط التي تضم ممثلين عن برلمانات الدول المشاطئة للبحر وبعض جاراتها مثل الأردن. الهدية التي شاركت برلمانات هذه الدول في وضع عناصرها عبارة عن "مانفستو" أو منشور سياسي أدبي صاغه رئيس الوفد البرلماني الفرنسي "مسيو رودي سال". عندما تطالع السطور تكتشف أن الوجه القاسي للسياسة الدولية يتوارى ليفسح مكاناً لأشواق دافئة تنبض بالحياة والإخلاص. مع الانتهاء من مطالعة "المانفستو" الذي يحمل عنوان "مشروع ميثاق البحر المتوسط"، شعرت أن موقفي من البرلمان الدولي والاتحادات البرلمانية الأخرى في البحر المتوسط وغيره من المناطق يجب أن يتغير إلى الأفضل. لقد كنت دائماً اعتبر هذه المحافل نوعاً من تجمعات العلاقات الدولية العامة التي لا تنتج في النهاية شيئاً ملموساً ينفع الناس، هكذا رأيت الوضع في عملية برشلونة التي انطلقت عام 1995 بهدف إنشاء منطقة أمن وسلام ورفاهية في حوض البحر المتوسط، وراحت تفرز مؤسسات بدءاً من مجلس وزاري ووصولاً إلى برلمان متوسطي تحت اسم الجمعية البرلمانية الأورومتوسطية. ذلك أن ثلاثة عشر عاماً قد مرت دون أن تنجح هذه العملية في حل الصراع العربي- الإسرائيلي ودون أن تقدم شيئاً ملموساً في مجال خلق منطقة الرفاهية للشعوب، بل ولم تنجح حتى في مهمة حوار الثقافات والأديان. ما زال الاحتلال الإسرائيلي في مكانه، وما زالت الفجوة الاقتصادية بين شمال المتوسط وجنوبه قائمة، وشهدنا تفاقماً للصور السلبية المتبادلة للأديان والثقافات في قضايا الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقبلها في العمليات الإرهابية، في المدن الأوروبية. الشيء الجديد الذي حسن موقفي ورؤيتي بعد قراءة مشروع ميثاق البحر المتوسط، هو ذلك النزوع الواضح في السطور للاعتراف بحقائق التاريخ المريرة التي تشير إلى الصراعات والحروب القديمة والحديثة بين شعوب البحر المتوسط. هذه النزعة هي الخطوة الأولى الصحيحة لبناء حلم السلام الشامل وحلم التعاون وحلم التفاهم والاحترام بين الحضارات، على أساس جديد، لا يتغافل عن التاريخ ودروسه المريرة وصراعاته الدامية. لقد شهدت المياه في البحر المتوسط حركة أساطيل حربية تتحرك بين الشطآن بقصد الإغارة والغزو منذ ما قبل التاريخ الميلادي، تشهد على ذلك حرب طروادة الأكثر شهرة في حروب الجزر اليونانية، والتي يحييها فن السينما المعاصر بأشكال متعددة. لقد جاء عصر استطاعت فيه النزعة العسكرية اليونانية أن تبسط سيطرتها على حوض البحر المتوسط ودوله وتوغلت في آسيا وصولاً إلى إيران ثم تبعتها الامبراطوريات الرومانية التي انطلقت أساطيلها من الشاطئ الإيطالي لتشرق بعد ذلك الديانة المسيحية على الشطآن لتحل محل الديانات الوثنية، وبعد مرور قرون سطعت على شطآن المتوسط شمس الإسلام الجنوبية وصولاً إلى إسبانيا في الشمال. إن الحروب الأحدث بين المسلمين والحملات الصليبية لم تكن الحروب الأخيرة الكبرى في الحوض، فقد كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية خلال النصف الأول من القرن العشرين بين قوى أوروبية تتشارك في ديانة واحدة هي المسيحية، وتسعى إلى تقاسم السيطرة على العالم وخاصة على الحوض الجنوبي للمتوسط وعمقه العربي. مشروع ميثاق البحر المتوسط يعترف في جسارة بالتاريخ المرير، وهي جسارة محمودة تشير إلى أن العقل السياسي في البرلمانات المتوسطية عازم على مواجهة الواقع وراغب حقاً في قهر التحديات القائمة. الميثاق ما زال في طور المشروع القابل للنقاش والتعميق، وأرجو أن يتمكن البرلمانيون المتوسطيون في الصيغة النهائية من إيجاد الوصفة الفكرية التي تمكن الناس من تحويل التراث التاريخي المرير إلى طاقة دافعة نحو التعاون وبناء حلم الأمن وتلبية أشواق السلم الإنساني.