ما فكّر أحدٌ في التشكيك بشرعية الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، رغم وجود غرائب كثيرة تخرج عن الأعراف المستقرّة في سيرته ومسيرته. ويرجع ذلك إلى استقرار النظام الأميركي منذ قرابة الثلاثمائة عام على تقاليد في الانتخاب والأكثرية والأقلية. وقد بلغ من ثبات هذه التقاليد التي لها بداياتٌ ومسارٌ ونهاياتٌ أو نتائج؛ أنّ مَن اتّبعها أو سار عليها أو فيها؛ فإنه يضمنُ أن لا يجري التشكيكُ بأي شكلٍ في أحقيته بالرئاسة أو النيابة استناداً لحصوله على أكثرية الأصوات. وفي المرة قبل الماضية؛ وعندما كان هناك شكٌّ في النتيجة بين بوش الابن وآل غور، جرى الاحتكام إلى المحكمة الدستورية التي حكمت لبوش، فما نَبَس آل غور ببنت شفة. وما يقالُ عن الولايات المتحدة، يُقالُ مثله وليس أقلّ منه عن الديمقراطيات الأوروبية العريقة. لكنْ ليس عن الديمقراطيات الجديدة مثل روسيا الاتحادية ودول أوروبا الشرقية، وأميركا اللاتينية. ففي تلك الدول أو الديمقراطيات الجديدة انجرفت الجماهير باتجاه قادة كارزماتيين أو مُلهَمين بلغة العصر الثوري العربي. والعلّةُ هنا ليس في الجماهير، بل في أولئك القادة. إذ إنَّ أحداً منهم لا يقبلُ أن يغادر السلطة عند انتهاء مدته مهما كلَّف الأمر. ومعروفٌ أنّ الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أجرى استفتاءً على تغيير الدستور للسماح لنفسه بالبقاء في السلطة لأمدٍ غير محدود، وما فاز بذلك، فقبل المسألة أو أجلها، بخلاف رؤساء آخرين في أميركا اللاتينية. ومعروفٌ ماذا حصل في روسيا إذ انقلب رئيس الجمهورية إلى رئيسٍ للوزراء، فكان هناك من عظَّمه لأنه لم يطالب البرلمان بتعديل الدستور لكي يبقى فترةً ثالثةً. وكان هناك مَن اعتبره متجاوزاً لروح الدستور بهذه الحيلة التي قام بها! وعلى أيّ حال، وأياً تكن حالةُ العالَم بديمقراطياته القديمة والجديدة؛ فإنّ العالم العربي كلَّه وبخاصةٍ في الجزء الجمهوريّ منه، يبقى استثناءً في منتهى الهول والشدة. وقد خطر لي أن أكتب عن ذلك بعد سماعي خبر تعديل البرلمان الجزائري للدستور للسماح للرئيس عبد العزيز بوتفليقة أن يبقى لفترةٍ ثالثة. وللرئيس بوتفليقة الذي حظيَ بخلاف ثلاثةٍ قبله، بدعم الجيش الجزائري على الدوام، إنجازاتٌ تُذكَرُ ولا تُنكَر. فقد حقّق السلم الأهليَّ إلى حدٍ كبير، واستعادت الجزائر في عهده توازُنَها الاقتصادي والسياسي. لكنْ رغم ذلك، فهذا البلدُ الذي ما عرف غير حكم الاستبداد والحزب الواحد منذ الاستقلال عام 1962، يستحقُّ من رؤسائه الثوريين الذين شاركوا في حرب التحرير، أن يكونوا أعلى إحساساً بالمسؤولية، وأن يلتزموا بالدستور الذي وضعوهُ هُم.. بيد أنها خصلةٌ عربيةٌ أو خصيصةٌ عربيةٌ، وما عاد أحدٌ يملكُ لها تغييراً ولا تبديلاً. فقد سنّها الثوريون العرب وأكثرهم من الذين وصلوا إلى السلطة بانقلاب، ثم خلّدوا أنفسهم في الحكم والسلطة حتى الموت. قبل بوتفليقة، كان الرئيس التونسي، قد دعا لتعديل الدستور من أجل أن تظلَّ البلاد مستمتعةً بالرفاه والاستقرار اللذين عرفتْهما في عهده، ووعد في مقابل ذلك بانتخاباتٍ حرَّة، وبحفظ حقّ المعارضة... إلخ. أما بوتفليقة فقد اقترن تعديلُهُ بالدستور بزيادةٍ في صلاحياته هو وليس في صلاحيات البرلمان! كيف يُعلِّل الرؤساء -الملوك الوارثون والموروثون في العالم العربي مخالفة الدستور، ومنع تداوُل السلطة؟ في البداية، أي في الخمسينيات والستينيات، كانوا يتحدثون عن "الشرعية الثورية"، أي أنّ مجموعة الضباط الآتية للسلطة تملكُ برنامجاً تغييرياً هو الذي يهبُها الشرعية أو يستحدثُها لها، وهي تحتاج أو يحتاج الزعيم الأوحد (الذي يقتل رفاقه أو يسجنهم) إلى مدةٍ غير محدودةٍ لإنفاذ البرنامج. وقد بلغ من الاقتناع بهذا التعليل أن البروفسور هيدسون في كتابه: السياسات العربية (1971) حاول التنظير للحالة العربية بالحديث عن شرعية التغيير أو الشرعية التي يُعطيها البرنامجَ التغييري لنظام الحكم؛ مُدْخلاً بذلك نمطاً رابعاً على أنماط ماكس فيبر الثلاثة للشرعية: نمط الشرعية التقليدية (الأنظمة الملكية)، ونمط الشرعية الدستورية (الديمقراطية)، ونمط الشرعية الكارزماتية (أي القائد الجماهيري). وماكس فيبر مات عام 1920 فهو لم يعرف النمط الكارزماتي الفاشي أو النازي بإيطاليا وبلده ألمانيا. لكنه وجد شواهد عليه في التاريخ الأوروبي من أمثال كرومويل وغاريبالدي ومازيني... إلخ. بيد أنّ تلك الأمثلة كانت استثناءات، ولذلك انتقد البعضُ فيبر لأنه حوَّلها إلى "نمط" يمكن أن يحدث في كلِّ آن! لكنّ النزوع الإلهامي صار نمطاً بالفعل في العالَم العربي، وقد جرى التعبير عن ذلك بصراحةٍ أحياناً مثل الحديث عن الزعيم الأوحد أو عن القائد الخالد أو قائد الثورة. وما أحسبُ أنَّ واحداً من هؤلاء الرؤساء الاستثنائيين كان يهتمُّ كثيراً لاقتراب انتهاء مدته؛ إذ كان يستطيع تكليف بعض أعوانه بالإعداد للتمديد وينتهي الأمر. وكان أحدهم في التسعينات يخطب عند كل تجديدٍ، ثم ما عاد إلى تقليل عقله بالخطابة أو حتى الإعلان في التسعينيات. ومع سهولة الأمر فإنّ غيره تخلص من ذلك منذ البداية، فقد أعلن نفسَه قائداًَ للثورة لا يتغير ولا يتبدل ولا يُستفتى عليه! لماذا انفرد العربُ وبعض الأفارقة بهذه الجمهوريات الملكية؟ كان هناك من قال إنّ جذور ذلك تقعُ في الاصطفاف في الحرب الباردة، بحيث حمى كلٌّ من الجبَّارين، أولئك الذين كانوا تابعين له. لكننا لا نرى أنّ نظاماًَ عربياً تغير بعد انتهاء الحرب الباردة، ربما باستثناء نظام اليمن الجنوبي! لذلك كان هناك من قال إنّ الولايات المتحدة سيدة النظام العالمي في العقدين الأخيرين، أبقت على الجميع الذين كانت لهم علاقاتٌ بها باستثناء صدام حسين الذي عاندها. وهناك رأيٌ ثالثٌ يذهب إلى أنّ العرب يحبون الاستقرار، ويتحملون كلَّ شيء دونما لجوءٍ إلى الاضطراب والفتنة! ما رأيتُ في كلّ هذه التعليلات ما يَشفي الغليل، وبخاصةٍ أنّ الأنظمة الجمهورية الثورية العربية ليست على ما يُرام، وهي لا تستحقُّ البقاءَ هذه المدة الطويلة، مُعتمدةً في بقائها على الأجهزة الأمنية وليس على دعم الجمهور. ليس هناك نظامٌ منها يجري انتخاباتٍ نصف حرة حتّى على مستوى البلديات. ولأنها أنظمةٌ نادرةُ المثال فقد استعصت على التنميط والتشبيه، فنسيها ماكس فيبر وبرَّرها واعتبرها واقعاًَ كُلٌّ من هيدسون ووتربري ومالكولم كير. لنعُد إلى الشرعية ومفهومها. هناك وسائل أو آليات لاكتساب الشرعية. ففي الأنظمة العربية التقليدية البيعة، بناءً على نظامٍ مُحْكَم. أما في الأنظمة الثورية أو الجمهورية ، وبعد الانقلاب فإنّ القادة المخلَّدين لا يحبون الانتخابات ويميلون للاستفتاء حيث لا يجرؤ أحدٌ على الترشح ضدَّهم. وقد جرَّب ذلك أحدهم في إحدى البلاد العربية فدخل السجن وما خرج منه حتى اليوم. وما ذكره البروفسور هيدسون من شرعيةٍ مكسوبةٍ بالتغيير، ما عادت متحققةً أيضاً. فلا أحد من الرؤساء الموجودين منذ عقود يحب التغيير مهما قلَّ أو ضَؤُل. ويشير بعضُ المراقبين إلى نجاحٍ نسبيٍ للنظام التونسي في التنمية منذ حوالي ثماني سنوات. لكنّ ذلك لا يبرر التجديد لولاية رئاسية رابعة أو خامسة، فكيف ببقاء الأنظمة الأخرى التي أفلست رغم وجود البترول! لا تتمتع الأنظمة العربية التي وصل آباء أو أجداد الحاكمين فيها إلى السلطة، بأية شرعية سياسية. ونحن منذ عقدين بانتظار رئيس عربي حي، يُعلنُ عن عدم ترشُّحه للرئاسة مرةً أُخرى. وقد يطولُ انتظارُنا، لكننا لن نملّ!