كل شعب وأمة ووطن ونظام سياسي يغفو ويفيق، ينام ويصحو، يقعد ويقوم، يخبو وينهض، ينكمش ويتمدد إلا في مصر والوطن العربي، نغفو ولا نفيق، ننام ولا نصحو، نقعد ولا نقوم، نخبو ولا ننهض، ننكمش ولا نتمدد. وطال الوقت، وامتد الزمن، وانقضى خريف العمر، وقربت نهاية الزمان، وقاربنا الشيخوخة على مدى أربعة عقود، جيل بأكمله. أفاقت روسيا بوتين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في 1991. وعادت فرنسا ساركوزي إلى العلاقات الدولية النشطة، وقيادة الاتحاد الأوروبي، وأخذ زمام المبادرة في الاتحاد المتوسطي وأفريقيا وآسيا. بل استيقظت أميركا اللاتينية، شافيز في فنزويلا، وموراليس في بوليفيا، والأرجنتين والبرازيل في الطريق رافضة أن تكون الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية. واستيقظت تركيا "حزب العدالة والتنمية"، تستعيد سيرتها الإمبراطورية وتؤسس علاقات أكثر توازناً بين الشرق والغرب، بين العرب وإسرائيل، بين آسيا وأوروبا، بين العلمانية والسلفية. وفرضت ماليزيا مهاتير تنميتها واستقلالها على العالم. والصين أصبحت عملاقاً اقتصادياً استعداداً لإرادة سياسية قادمة. تلك روح العالم بتعبير الفيلسوف هيجل التي لا تنطفئ ولا تخبو، بل تظل سارية يقظة في ضمير العالم، ومتحركة في التاريخ. تنتقل من شعب إلى آخر، وتحل في حضارة بعد أخرى. فماذا عن مصر؟ هل تعود الروح إليها، ويقترب مسار التاريخ منها؟ روح مصر في قيادتها التي تدرك إمكانياتها مثل أحمس طارد الهكسوس، وصلاح الدين قاهر الصليبيين، وقطز حامي مصر والشام من غزوات التتار، ومحمد علي باني مصر الحديثة، وعبدالناصر مجسد القومية العربية. له خيال سياسي قادر على تجاوز الحسابات الصغيرة. ينظر إلى الآخرة أكثر مما يحرص على الدنيا، كاريزما توقظ الناس. ولا خوف من قهرها وقمعها ولا من تشريعها في "المستبد العادل". تراثها هو تراث الأنبياء، (قم فأنذر) أو: سمعت صوتاً هاتفاً في السحر نادى من الغيب غفاة البشر وليس تراث الموظفين الطائعين الذين يعيشون يوماً بيوم بلقمة العيش وشربة الماء. روحها روح الشعب والكتلة الصماء والجماهير والأعداد الغفيرة والناس والمظاهرة واللمة والشارع والمصطبة والجماعة والأسرة وليس "الشلة" ورجال الأعمال والعصابة والدفعة. لا تفرط في روح الجماعة التي تتجلى في العدالة الاجتماعية وتقريب الفوارق بين الطبقات كما تجلت في اشتراكية الستينات وفي موروثها الثقافي عن الأخوة والتضامن الاجتماعي والزكاة والملكية العامة لوسائل الإنتاج، الماء والكلأ والنار، "ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ". روحها جيشها من فلاحيها وعمالها وطلابها للدفاع عنها، من ريفها ومصانعها وجامعاتها. هو جيش عرابي الذي وقف أمام الخديوي في قصر عابدين. هو جيش الضباط الأحرار الذي فجر ثورة يوليو 1952 بمبادئها الستة وأعاد بناء مصر المعاصرة كما بنى محمد علي مصر الحديثة. والجيش طبقاً للدستور هو حامي المكاسب الاشتراكية، والمحافظ على النظام الجمهوري. روحها وحدتها الوطنية التي تجلت في مواجهة العدوان الثلاثي في 1956، والتفاف الشعب حول الجيش والمقاومة لدرء العدوان وتحويل عبدالناصر من شخصية خلافية مع القوى السياسية التي كانت موجودة قبل الثورة، إلى بطل قومي. ويخرج المعتقلون السياسيون بعد أن يسلحهم عبدالناصر للمقاومة في بورسعيد. وهي الوحدة التي تجلت أثناء حرب أكتوبر 1973 بعد أن يئس الشعب من عام الحسم. واستمرأ العدو الصهيوني الاستحمام في قناة السويس أمام أعين جنود مصر. وقد تجلت قبل ذلك في ثورة 1919، وكل فئات الشعب، فلاحين وعمال وطلاب وموظفين، عامة وباشوات، ملتفين حول سعد زغلول. كما تجلت في الحركة الوطنية للطلبة والعمال في 1946 والتي منها خرجت حركة الضباط الأحرار، ومظاهرات الطلبة في ميدان التحرير في 1971. وليست روح التفكيك للوطن وللمواطنين، وحل المشاكل الفردية عن طريق الانتهازية السياسية في الداخل على أكتاف الحزب الحاكم أو الهجرة خارج البلاد حتى ولو كانت غير شرعية ومخاطرة بالموت غرقاً. هي الحرية في العشرينات والثلاثينات، والتعددية الحزبية، والحكومة المسؤولة أمام البرلمان وصرخة العقاد تحت قبة البرلمان أنه مستعد لتحطيم أي رأس في البلد دفاعاً عن حرية شعبه. هي الصحافة الحرة، والجامعة الحرة، والفكر الحر، وازدهار الفكر والشعر والأدب والموسيقى والغناء والفن. فالحرية شرط الإبداع. وليس القمع والمصادرة والمنع وسيطرة الدولة على الإعلام، والحزب الحاكم على المجالس النيابية والجامعة. وليس روح الأغاني الهابطة والجامعة التي تجري وراء رزقها باسم الجودة والتي يلعب الطلبة في فنائها بعد الظهر كرة القدم، ويطبلون ويزمرون ويزفون العروس أسفل النصب التذكاري للشهداء. هي روح الاستقلال ضد الارتهان، والإرادة الوطنية المستقلة ضد الإرادة المرتهنة، روح الهوية ضد التغريب، والذاتية ضد الآخر. فمصر هي ميزان الثقل في الوطن العربي، ملتقى أفريقيا وآسيا وأوروبا. خطت سياسة عدم الانحياز، وكونت كتلة أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية التي تمثل ثلاثة أرباع سكان العالم. لا تستطيع أن تنحاز شرقاً أو غرباً، "لا شرقية ولا غربية". ولا يعني الاستقلال الانعزال عن العالم أو معاداته بل روح الحوار بين الأطراف المتكافئة على مستوى الندِّية وليس من موقع الدونية أو الشحاذة أو المساعدة وارتهان الإرادة بالمعونة الخارجية. هي روح القلب النابض الذي يدفع الدم إلى الجسد والأطراف. هي الدولة القاعدة بين المغرب العربي غرباً، والسودان جنوباً، والجزيرة العربية شرقاً والشام شمالًا. دولة بلا حدود. حدودها مفتوحة على الجهات الأربع. جعل الإسلام جندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلى يوم القيامة. لا تقوم بها دول صغرى بديلة ولا دول الجوار في الشمال والشرق والتي أصبحت مؤثرة في الوطن العربي أكثر من مركزه. أتاها الهكسوس والفرس والروم ونابليون والاستعمار الحديث لحكم العالم من مركزه، ولكن المركز رفض أن يكون مركزاً لغيره البعيد مؤثراً جواره القريب. هي روح القصص الكبرى والمشاريع الضخمة لتغيير مسار التاريخ وروح العالم، وليست الحسابات الصغيرة. فمن يتخلَّ عن الكبير لا يحصلْ على الصغير. ضاع المشروع الكبير، وتعثرت المشاريع الصغرى في المياه والكهرباء والإسكان والغذاء والصرف الصحي والطرق والكباري والمواصلات وبناء المدارس والمستشفيات. روحها التشييد والبناء منذ الأهرامات حتى السد العالي وليس حرق المباني الأثرية، مجلس الشورى والمسرح القومي ودار الأوبرا. روحها حتى في العصر المملوكي في الأدب والفن والعمارة والزخرفة. ومازالت أحياؤها القديمة عامرة بالمشربيّات والبيوت المملوكية. لم تهدمها "المولات" ولا الأسواق التجارية ولا الفنادق ولا الشركات ولا البنوك الأجنبية. ليس مستحيلًا إذن أن تعود مصر إلى روحها. فهي ليست استثناء في التاريخ. ولا هي أول مرة تغفو فيها. فطالما مرت عليها فترات مشابهة إلى أن يظهر فيها أوباما مصري يغيرها، ويعيد الثقة إلى نفسها، ويجسد سياسات بديلة. يصحح مسارها، ويعيدها إلى تاريخها، ويبعث روحها، ويجسد الحلم العربي، ويرد إلى العرب وجودهم وثقلهم في التاريخ.