في لبنان ثروة مائية كبيرة، تهدر في الأرض وفي البحر، ويعاني اللبنانيون من أزمة عطش، ووصلوا إلى مرحلة في بعض مواسم الصيف ومع قلة هطول الأمطار، إلى الوقوف في الصفوف، ينتظرون شراء خزانات مياه لقضاء حاجاتهم، وباتت كلفة ذلك مرهقة للجميع في المدن والقرى للأغنياء كما للفقراء. ولو احتسبنا هذه الكلفة في كل لبنان- وقياساً على مساحة البلد وعدد سكانه- لأدركنا أمرين: الأول: أن كلفة الحصول على المياه للاستخدام المنزلي اليومي عالية جداً بالمقارنة مع الوضع في أغلى العواصم دون مبالغة. والثاني، هو أننا بهذه الكلفة، ولو كانت لدينا رؤية وخطة وقرار لاستطعنا مدّ أهم شبكة مياه وإيصال المياه إلى كل لبنان ومن دون مبالغة أيضاً. لماذا لا نفعل ذلك؟ لأن الحسابات السياسية الضيقة وسوء الإدارة وسوء مفهوم العمل السياسي، والنظرة الفئوية للأمور، إضافة إلى الهدر والفساد اللذين باتا ملاصقين ملازمين لعمل الإدارة اللبنانية للأسف، رغم وجود كفاءات كثيرة وشخصيات نظيفة في الإدارة ، كل ذلك طغى على مفهوم العمل المؤسساتي، وعطّل القرار. والقرار والإقدام عليه أمران حاسمان في إنجاز أي مشروع. وفي لبنان أزمة طاقة خانقة؛ ظلام في مدن وقرى، ومشاكل في الصناعة والزراعة والسياحة والاستثمار وكل القطاعات بسبب أزمة الكهرباء. والدولة تدفع فوق ميزانيتها السنوية المعتمدة لوزارة الطاقة ما يقارب مليار دولار دعماً للكهرباء وليس ثمة كهرباء! ولو احتسبنا أيضاً كلفة شراء المولدات الخاصة، أو الاشتراك في مولدات عمومية في الأبنية والأحياء في المدن والقرى، ومدّ الشبكات الخاصة، وفي المصانع والمؤسسات وكلفة الوقود لتشغيلها مع الكلفة الكبيرة على مستوى التلوث لأدركنا أيضاً أننا بهذه المبالغ مجتمعة قادرون على إنشاء أهم محطات توليد كهرباء في المنطقة وتأمين التيار الكهربائي إلى كل المنازل والمؤسسات والإدارات والمصانع. لماذا لا يحصل ذلك؟ للأسباب ذاتها المذكورة أعلاه. تضاف إليها ملاحظة، وهي أنه وبعد انتهاء الحرب الأهلية والدخول في مشروع إعادة إعمار البلد كان كثيرون يتسابقون على استلام حقيبة وزارة الطاقة في لبنان. ولكن أزمة رافقت تشكيل الحكومة الحالية منذ أشهر وتجسدت بعزوف كل القوى السياسية عن استلام حقيبة الطاقة حيث لم يعد فيها مال، وليس ثمة كهرباء، وبالتالي ليس ثمة مجال للاستفادة والمنفعة، وليس ثمة مجال لتحمل المسؤولية! وفي لبنان، إهانات يومية للمواطنين على أبواب المستشفيات، ولا يمر يوم دون أن يتدخل سياسي مع وزارة الصحة أو إدارات المستشفيات مباشرة لتأمين دخول مريض وتأمين سرير له لإجراء عملية أو تلقي علاج، رغم وجود مصادر عديدة تنفق فيها الدولة على القطاع الصحي: الضمان الاجتماعي- تعاونية موظفي الدولة- وزارة الصحة- الأمن العام- الأمن الداخلي- الجيش. إضافة إلى شركات التأمين الخاصة. ولو احتسبنا أيضاً القيمة النهائية، التي تدفعها هذه المصادر بالقياس على عدد سكان البلد، لأدركنا أن لبنان يأتي في طليعة دول العالم التي تنفق على القطاع الصحي، ولتمكنا من معالجة كل اللبنانيين بكرامة. لماذا لا يحصل ذلك؟ أيضاً وأيضاً للأسباب المذكورة أعلاه . ولتبقى مزاريب الهدر والاستفادة قائمة ومستمرة، ولو على حساب صحة وكرامة المواطنين اللبنانيين! وفي لبنان أزمة سير وأزمة طرقات وموازنات تنفق كل عام من وزارة الأشغال أو مجلس الإنماء والإعمار أو الهيئة العليا للإغاثة، وبلديات، وحديثاً من سياسيين ودول دخلت إلى البلد بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، ومع ذلك الأزمة قائمة دون تفاهم. وثمة قرى ومناطق يخجل المرء من ذاته إذا زارها وسلك طرقاتها، ويشعر بالإهانة لأنها لا تليق بكرامة المواطنين، ولا تمت بصلة إلى حقوقهم وانتمائهم إلى بلد طالما تغنوا بتمايزه عن سائر دول المنطقة بطبيعته ونظام خدماته، وغير ذلك من الأمور، التي لم تعد موجودة تقريباً، وقد سبقنا اليها كثيرون... ولو احتسبنا أيضاً المبالغ التي تنفق من المصادر المذكورة على الطرقات والمشاريع لأدركنا أنه بالإمكان الاستفادة منها لإقامة أفضل شبكة طرق في لبنان وتأمين التواصل بين القرى والمدن والمناطق بشكل أفضل وضمان الصيانة الدائمة، وهذا يؤثر على حركة انتقال المواطنين والبضائع، ويوفر الوقت والمال، ويضمن حياة الناس أيضاً، لأن حوادث كثيرة تقع بشكل دائم وبسبب سوء أحوال الطرق. لماذا لا يحصل ذلك؟ أيضاً وأيضاً للأسباب المذكورة آنفاً، وهنا يمكن القول: بين زفت السياسة، وسياسة الزفت المعتمدة في لبنان، طارت الموازنات واختلت التوازنات، وتقدمت محادل السياسة السيئة على محادل الزفت وفلاّشات السياسة المبنية على النكايات والأحقاد على فلاّشات الزفت المخصصة للتنمية... هذه عينات من مشاكل يعاني منها اللبنانيون وتفشل الإدارة اللبنانية في معالجتها بشكل عام دون أن نتجاهل نشاط وصدق بعض المسؤولين والمواطنين المؤتمنين على مصالح الناس. ترى، أمام هذا الوضع ما هو معنى السياسة؟ أهي استغلال للناس حتى في وجعهم وألمهم وشرب مائهم وتأمين الحد الأدنى من مقومات حياتهم الكريمة أم أنها سعي لرفع شأن حياة الناس ورفع الظلم والظلام والمعاناة عنهم؟ وكيف يمكن لدولة أن تقوم عندما تبنى على هذه الأسس فتثبت وتكرس غيابها لا حضورها، ويصبح باستطاعة أي طرف أو حزب أو فريق أو جهة أن يقول: ما دامت الدولة غائبة، فلابد من تدبر أمورنا بأنفسنا، حتى ولو لجأنا إلى دول ومساعدات وعشنا عليها وانتظرناها وقبلنا بكل ما يمكن أن يسببه لنا ذلك؟ وكيف يمكن للدولة أن تستقيم مؤسساتها وأن يستقيم العمل فيها إذا ما استمرت الذهنية القائمة حالياً هي المتحكمة بمفاصل القرار في المؤسسات والإدارات العامة، وهي ذهنية التشاطر والتسابق على "خطف" ما أمكن من إمكانات هذه الإدارة أو تلك إلى هذا الفريق أو ذاك... متناسين الآخرين... ومتناسين في الوقت ذاته أن الفاتورة في النهاية سندفعها جميعاً! للأسف، لبنان غارق في هذه الأزمة، ولا أرى مخرجاً منها في المدى المنظور . فالعنصر السياسي هو الطاغي على ما عداه. والسياسة هنا لا تعطي موقعاً وأولوية للدولة ومؤسساتها، وهذا أخطر ما نواجهه وما يجب أن ندرك مخاطره وبالتالي نعمل على تفاديه قبل فوات الأوان.