كتاب "كربلاء -الحلة- الديوانية، قبل 75 عاماً"، ليس كتاباً في التأريخ لحياة ذلك الجزء من العراق، بقدر ما هو عمل أثنوغرافي يحاول النفاذ إلى تفاصيل الوجود الاجتماعي، بما فيه من بنى إنتاجية وقرابية وثقافية، هي الناظم الأساسي لمختلف أوجه السلوك والنشاط والرؤى في مجتمع الفرات الأوسط. يقدم الكتاب تعريفاً بجغرافية المنطقة، ومدنها الرئيسية، ومواردها المائية، ونظام الزراعة والري فيها، كما يعطي لمحة عن الصناعة وطرق المواصلات والبلديات، وعن الحيوانات والصيد والأمراض والمعتقدات والأمثال الشعبية والشعر العامي... ثم يخوض بكثير من التفصيل في النظامين الثقافي والعشائري، ويركز بصفة خاصة على تقسيمات العشائر وحياتها ونمط السلطة والزعامة فيها، وكذلك نظام ملكية الأرض ودور المرأة. وفيما يخص الموقع، فقد أطلق على البقعة الممتدة على جانبي نهر الفرات، بين حدود الأنبار التاريخية شمالاً وحدود "أور" جنوباً، اسم الفرات الأوسط. وهي بقعة تشمل اليوم ثلاث محافظات عراقية مهمة، هي كربلاء والحلة والديوانية، وتضم محافظة كربلاء قضاء النجف وناحية الكوفة، وهما مدينتان لهما عراقتهما في التاريخ الإسلامي. وإذ تشكل الزراعة عماد الحياة الاقتصادية لسكان الفرات الأوسط، نجد المؤلف يفرد مساحة واسعة من كتابه للتعريف بمصادر المياه وأساليب الري... فمنذ أقدم الأزمنة كان الفرات، وهو يتجه نحو الجنوب الشرقي، يروي الأراضي الزراعية على جانبيه، لكن منذ نهاية القرن الثامن عشر أدى تزايد شق الترع وبناء السدود إلى تلف أكثر المزارع في لواء الحلة وفي جزء من لواء الديوانية. ومن أعظم ما قام به الأتراك في العراق بناءهم "السدة" التي مكنت أولوية الفرات الأوسط من ري مزارعها. لكن قواعد الري في الفرات الأوسط، كما يلاحظ المؤلف، لم تكن متجانسة في يوم من الأيام، فتقسيمات المياه في لواء الحلة وكربلاء أكثر تنظيماً منها في الديوانية، لكثرة البوابات والسدود ونظم التحويل المائي. أما التربة في الفرات الأوسط فهي صلصالية قوية الإنبات، يضرب بها المثل في الخصوبة، لذا عاشت في هذه المنطقة دول قوية أشادت صروحاً وخلفت آثاراً تدل على أنها كانت ممالك زراعية عظيمة الشأن وفيرة الخيرات. لكن الزراعة في الفرات الأوسط عانت منذ أواسط القرن التاسع عشر من تراجع مياه الأنهار، وعدم تنظيم الري، ومن عوامل أخرى ذاتية كنقص الخبرة وغياب الإرشاد الزراعي. ويتطرق المؤلف إلى البنية الطرقية وتطوراتها عبر السنين، فهي تتألف من طرق المواصلات البرية والنهرية، حيث تتكون الأولى من طرق الدواب والسكك الحديدية والسيارات، بينما تنحصر الطرق النهرية في السفن الشراعية والبخارية. وقد قام البريطانيون عقب احتلالهم البصرة بمد خط حديدي يربطها ببغداد. ودخلت السيارات إلى العراق قبيل الحرب العالمية الثانية، وفي الثلاثينيات بدأ رص طريق بغداد الحلة الديوانية الناصرية، لكنه ما كان صالحاً للاستخدام في موسم الأمطار. أما الطرق الأخري في باقي أنحاء الفرات الأوسط فلم تظهر إلا في الأربعينيات. ولا يوجد في الفرات الأوسط طريق نهري متصل، وذلك لكثرة الترسبات والأهوار فيه، مما يجعله غير ملائم لمرور السفن الكبيرة، إلا في مواسم الفيضان عندما يعلو منسوب النهر. وإذ تنبني الحياة الاجتماعية لسكان الفرات الأوسط على النظام العشائري، فإن المؤلف يخصص له حيزاً كبيراً من كتابه، فالأكثرية الساحقة من سكان الفرات الأوسط هم من العشائر التي اختارت سكناه منذ قرون طويلة لخصوبة أراضيه ولتوفره على المراعي الكثيرة. وقد استوطنت بعض العشائر في الفرات الأوسط بمساعدة الحكومة ولمحاربة عشائر أخرى قوية الجانب، كما فعلت الحكومة العثمانية يوم أسكنت عشائر "آل فتلة" في أراضي الديوانية لإضعاف عشائر "الخزاعل". ومن عشائر الفرات الأوسط ما كثر عددها فانتشرت في أماكن متعددة كعشيرة "آل زياد"، ومنها ما قل فتحالف مع عشائر أخرى واندمج بها. ومنها ما ظل على قلته وضعفه، وهناك قليل من العشائر المستضعفة التي لا تستند على غير الحكومة. ورغم ذلك لا يجد المؤلف أي فرق في التقاليد واللهجات والاجتماعيات والأخلاق... بين هذه العشائر. أما عن البناء الاجتماعي في الفرات الأوسط، فهو كما يبين الكتاب، يرتكز على القبيلة، وهي بنية قرابية تنقسم إلى عشائر، والعشائر إلى بطون، والبطون إلى أفخاذ. ويحكم القبيلة "شيخ المشايخ"، والعشيرة "شيخ"، والفخذ "رئيس". وللعشائر أنظمة خاصة في حسم النزاعات التي تقع بين أفرادها أو أفخاذها، وهي أعراف قبلية أقرتها السلطة الرسمية منذ عهد الحكم العثماني، كقانون لتسيير أمور العشائر، ومن ذلك آلية "المحكمين"، وهم أشخاص من أهل الخبرة في العشيرة، يتولون فض المنازعات ويصدرون الأحكام. وإلى جانب النشاط الزراعي والنظام العشائري، يذكر المؤلف ثلاثة عناصر أساسية في حياة مجتمع الفرات الأوسط، أولها التشيع، بما يندرج تحته من معتقدات وأحكام، وثانيها فئة السادة، وهم ذرية آل البيت الذين يجلهم الشيعة ويعتبر كل شيعي أن لهم حقاً في ملكه الخاص، أما العنصر الثالث فهو التجار الذين يمارسون صنوف الاستغلال في مجتمع يعمه الفقر، ومن ذلك المرابات و"قرض الفائض"! محمد ولد المنى --------- الكتاب: كربلاء -الحلة- الديوانية، قبل 75 عاماً المؤلف: السيد حسين على النجفي الناشر: الدار العربية للموسوعات تاريخ النشر: 2008