يجمع "فان جونز" مؤلف هذا الكتاب بين كونه ناشطاً بيئياً وناشطاً في مجال حقوق الإنسان أيضاً. فهو مؤسس ورئيس منظمة Green For All القومية الأميركية المعنية بمكافحة الفقر وإنشاء وظائف الياقة الخضراء للجميع. كما عمل مستشاراً لأكثر من حملة انتخابية رئاسية، فضلاً عن عمله بالصفة نفسها مع العديد من صناع السياسات والقرارات خلال خمسة عشر عاماً الماضية. وقد سبق له أن نشر ثلاثة كتب لها علاقة بالمجالين اللذين ينشط فيهما، إلا إن كتابه الذي نعرض اليوم "اقتصاد الياقة الخضراء" قصد منه مناقشة التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لوظائف الياقة الخضراء. ويجدر بالذكر أن مصطلح "وظائف الياقة الخضراء" هو من المصطلحات الجديدة، ويعرفه "جونز" بأنه يعني الوظائف الداعمة للأسرة، إلى جانب المساهمة المباشرة في الحفاظ على جودة البيئة ونوعيتها. وللمصطلح في رأيه معنى آخر له صلة بتوفير حل واحد لأكبر أزمتين يواجههما المجتمع الأميركي، بل العالم كله، أي الأزمة الاقتصادية (ومنها مشكلة الفقر) وأزمة التغير المناخي. لكن كيف تترابط هاتان الأزمتان؟ لنذكر حقيقة واحدة هي أن المحرك الرئيسي للاقتصاد القومي الأميركي هو الوقود الأحفوري بمستخرجاته من نفط وغاز طبيعي وفحم حجري... وكلها تصنف ضمن موارد الطاقة التقلدية غير المتجددة. وما أن يحدث أي اضطراب في تدفق هذه الموارد وإمداداتها، حتى ترتفع أسعار الوقود، لترتفع معها أسعار كافة السلع والخدمات. وقد حدث هذا في الأشهر الماضية حين تجاوزت أسعار النفط حاجز الـ150 دولاراً للبرميل. ونتج عن ارتفاع أسعار الوقود إحجام المستهلكين عن الشراء والإنفاق وتفشي البطالة، ما يؤدي إلى تباطؤ الإنتاج الاقتصادي وركوده. وهذا عامل مهم في تفسير الأزمة المالية الراهنة. أما على الصعيد البيئي فلنذكر أن لموارد الطاقة الأحفورية التقليدية انبعاثاتها من غازات بيت الزجاج، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون، وهي جميعها من الغازات السامة المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري وارتفاع درجات حرارة الأرض. وليس ثمة جديد في القول إن منشأ معضلة التغير المناخي التي يواجهها كوكبنا هو هذه الغازات الناشئة عن الطاقة الأحفورية. وهكذا يتضح الارتباط الوثيق بين الأزمتين البيئية والاقتصادية، لكونهما تكملان بعضهما البعض وتتشابكان. أما النتيجة الطبيعية لهذا التشابك فهي استحالة الاستمرار في هذه الوجهة المدمرة بيئياً واقتصادياً معاً. فما الحل إذن؟ هذا هو المرمى الرئيسي للمؤلف الذي فصل فيه تفصيلاً وافياً ومسهباً كيفية تجاوز نمط الاقتصاد الرمادي الملوث السائد حالياً، واستبداله بنمط اقتصاد أخضر حديث. ويرى الكاتب أن السبيل الوحيد لبناء هذا الاقتصاد الجديد هو إنشاء تحالف واسع ذي جذور عميقة في حياة المواطنين العاديين وصراعهم اليومي مع الحياة وكسب لقمة العيش. والمطلوب في هذا أن تكون هناك خطط وسياسات عملية واضحة وقادرة على خفض أسعار الوقود من ناحية، وإنشاء ما يكفي من الوظائف وزيادة دخل الأفراد والأسر بما يساعد على إنقاذ الاقتصاد الأميركي من محنته الحالية من الناحية الأخرى. وهذا هو الطريق الذي يجب ابتكاره والاستثمار فيه. ومن شأن موجة الاستثمار الأخضر هذه أن تنقذ البيئة والاقتصاد معاً بحل واحد ذي وظيفة مزدوجة. لكن وفيما لو فكرت الشركات ومؤسسات الاستثمار بجدية في ارتفاع طلب المستهلكين على منتجات تكنولوجيا الطاقة الخضراء، فينبغي لها (الشركات والمؤسسات الاستثمارية) أن تلتزم بتطبيق مبادئ مشاركة المستهلكين أنفسهم في هذه الحلول، فضلاً عن الالتزام بمبادئ حماية البيئة والاستثمار، بما يخلق فرص الشراكة في النمو والازدهار الاقتصاديين مع كافة أفراد المجتمع بشتى فئاته وطبقاته الاجتماعية. وبهذا يطرح "جونز" ما يسميه "الصفقة الجديدة الخضراء"، وهي عبارة عن إحياء وتجديد لـ"الصفقة الجديدة" التي كان قد أطلقها الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت. وقد أولى الكاتب اهتماماً كبيراً لتحديد وتعريف كافة المبادئ الرئيسية ذات الصلة بمشروع الشراكة الذكية الداعمة لاقتصادات الأسر والبيئة، والتي يمكن التعويل عليها في حل الأزمتين البيئية والاقتصادية. ولدعم مشروعه هذا، اهتم المؤلف بضرب أمثلة النجاح التي حققتها هذه الشراكة في مختلف أنحاء العالم -بما فيها تجارب ولاية شيكاغو ومقاطعة ميلوكي- إلى جانب تحديد الأولويات الحكومية على المستويين القومي والمحلي، مع تقديم إجابات وحلول عملية محددة للمشكلات. ومع ملاحظة سيطرة الحلول الخضراء على تفكير الساسة وأصحاب الاستثمار وصناع القرار في واشنطن مؤخراً، فقد ازدادت المؤشرات على ترجيح الاستثمار الضخم في مجال التكنولوجيا الخضراء، بما فيه الاتجاه نحو ابتكار موارد الطاقة البديلة المتجددة، وصناعة السيارات الصغيرة والحافلات ووسائل النقل الجماعي، بما يحقق أهداف الحد من التلوث البيئي، ويساعد على خلق الوظائف الجديدة التي تمكن العاملين من دعم أسرهم والخروج من دائرة الفقر في ذات الوقت. وفي تفاؤل مشوب بالحذر يخلص الكاتب إلى إمكانية بروز عشرات الآلاف من الأبطال بين صفوف المجتمع البشري، ممن يتصدون لقيادة هذه الموجة الاقتصادية الثالثة الخضراء. عبدالجبار عبدالله ----------- الكتاب: اقتصاد الياقة الخضراء المؤلف: فان جونز الناشر:دار "هاربر كولينز" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2008