أثار فوز باراك أوباما، أول مرشح أفريقي في انتخابات الرئاسة الأميركية، عدداً من التساؤلات حول نصره الكاسح على خصمه الأبيض، واستطاعته بذلك أن يصبح أول رئيس "أسود" في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. ولا ينظر كثيرون إلى انتخاب أوباما رئيساً على أنه سيحدث تحولا (سريعاً على الأقل) في السياسة الخارجية الأميركية بعد ثماني سنوات من الاخفاقات الكبيرة المتتالية. ولعل أحد أسباب فوز أوباما يتجلى في شعار التغيير الذي رفعه خلال حملته الانتخابية. والأمر هنا لا يتعلق بمجرد كلمة التغيير، بل لأن الشعار جاء في وقت مناسب تحتدم فيه الأزمات الأميركية داخلياً وخارجياً. فشعار التغيير الذي رفعه أوباما غير شعار منافسه جون ماكين، ذلك أنه حمل أكثر من معنى: فهو، بالنسبة للأميركيين السود كان يعني نهاية سنوات من الاضطهاد والمرارة التي عاشوها وما تزال متجسدة في نفوسهم. ويكفي هنا أن نورد تعليق جيسي جاكسون، رفيق مارتن لوثر كينج، على فوز أوباما، حين قال وقد سالت دموعه: "لم أكن أعلم متى، لكني طالما اعتقدت أن ذلك أمر ممكن"، في إشارة منه إلى وصول أول رئيس أسود للبيت الأبيض. وقال جون لويس، أحد قادة النشطاء السود: "إنني حقاً ممتن لأنني ما زلت هنا أعيش هذه اللحظة التاريخية التي لا تصدق لبلادنا". كذلك، لم تكن معاني التغيير غائبة عن الأميركيين البيض، فقد جاءت رسالة التغيير لهم في وقتها المناسب. فقد كانوا يتطلعون بدورهم إلى التغيير، فهو يعني قطيعة مع ثماني سنوات من حكم الرئيس بوش، تعرضت خلالها مكانة الولايات المتحدة العالمية وأوضاعها الاقتصادية للتدهور. ومما يجدر ذكره أن أوباما قد "خرج" على كل القواعد المعمول بها. ليس لأنه أفريقي الجذور فحسب، ولا لكونه ابن كيني مسلم فقط، بل لأنه أيضاً لا ينتمي إلى "مجموعة الواسب" أي "البيض من الأميركيين الأنكلوساكسونيين البروتستانت". لقد كان للأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد الأميركي الدور الأكبر في تعزيز انتصار أوباما، وجعل التغيير الذي يدعو إليه أكثر إلحاحاً. فقبل أيام من حدوث الأزمة، كانت استطلاعات الرأي تشير إلى التقارب في النقاط بينه وبين منافسه الجمهوري (ماكين)، الأمر تغير تماماً عقب حدوث الأزمة. وكما يرى سكوت ريد، أحد مستشاري الحزب الجمهوري، فإن الأزمة المالية "أعادت هيكلة السباق الرئاسي ووضعت ماكين في موقع الدفاع على طول الخط. وإذا كان هذا السباق بين المرشحين المتنافسين هو سباق سيارات، فإن الأزمة المالية بمثابة ثقب في إطار سيارة ماكين، لم يستطع أن يتغلب عليه أبداً". ويوضح كل من إدوين تشين وهانز نيكولاس، كيف أن حملة ماكين "خرجت عن مسارها بسبب السوق، والأخطاء، والارتباط ببوش". فماكين "أساء التعامل مع الأزمة المالية ما أفقده ثقة الأميركيين". وماكين هو الذي قال، بعد يوم من إفلاس بنك "ليمان براذرز"، رابع أكبر مصرف أميركي: إن "أسس اقتصادنا ما زالت قوية"، في وقت كان الذعر قد بدأ يسيطر على الأميركيين، وهو الخطأ ذاته الذي ارتكبه أحد كبار مستشاريه، قبل ذلك ببضعة أشهر، حين وصف الأميركيين بأنهم "أمة من البكائين. وأن الكساد هو كساد في عقولهم وليس في الاقتصاد"، بعد أن كانت موجة خسارة الأميركيين لبيوتهم قد بدأت بالتمدد. لكن السؤال المهم هو كيف سيقود أوباما أمة مأزومة دولياً؟ فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن المنصرم، لم تواجه الولايات المتحدة تحديات مماثلة على الصعيد الخارجي. وهذا الإرث سيكون عائقاً أساسياً أمام حركة أوباما لإصلاح النهج الذي اتبعته إدارة الرئيس بوش داخلياً وخارجياً. فأوباما يرث ثلاث حروب: اثنتان على الأرض في العراق وأفغانستان، وواحدة في المخيلة الأميركية على ما تسميه "الإرهاب"، فضلا عن توسيع نشاط القوات الأميركية وتراجع التأييد والتقارب الدولي للولايات المتحدة، وارتفاع أسعار النفط وانخفاض قيمة الدولار وعجز مالي وصل إلى تريليون دولار، وارتفاع في قيمة الدين الأميركي إلى ما يقرب من عشرة تريليونات دولار، علاوة على الاخفاق في ثني إيران عن سعيها لامتلاك تكنولوجيا نووية، وتزايد نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. أما بالنسبة للصراع العربي -الإسرائيلي، والذي يعتبر أحد الأسباب الرئيسة للأزمة الأميركية في المنطقة، فإنه يصعب تحقيق ما تعهدت به الإدارة الأميركية من قيام دولتين، في ظل الظروف الفلسطينية والإسرائيلية المتنوعة. فأجندة كل مرشح وأطروحاته تتغير مع الأيام وتدخل عليها تعديلات ومستجدات في ضوء ثبات الأهداف الاستراتيجية الأميركية المستندة أساسا إلى مصالح ثابتة، وهو ما ظهر في خطاب أوباما بعد فوزه حين لجأ إلى تغيير موقفه من القضية النووية الإيرانية، وهو ما يعيدنا إلى حزيران الماضي، في ظل حمى السباق التملّقي أمام مجموعة "الإيباك"، حين تحدث عن قضية الشرق الأوسط، مؤكدا على "أن الفلسطينيين بحاجة إلى دولة متماسكة ومترابطة جغرافياً"، أي غير مقطّعة الأوصال، وغير مفصولة بـ"مستوطنات". ثم ما لبث أن اتخذ موقفاً منحازاً وغير منسجم مع كلامه عن الحاجة الى دولة فلسطينية متماسكة ومترابطة جغرافياً، خاصة عندما قال عن القدس إنها "ستظل عاصمة إسرائيل الموحدة"! في ضوء هذا كله، فإن ما قاله "أوفير بينس باز" متوازن ومفتوح على مختلف الاحتمالات: "خطاب أوباما في إيباك دفعني لاحساس كبير بعدم الراحة. يمكن الإدعاء بأنه ألقى خطابا صهيونياً حماسياً وانفعالياً. هرتزل نفسه، لو كان يشارك في مؤتمر اللوبي من أجل إسرائيل، لوقف بالتأكيد خجلا في الزاوية مسائلا نفسه: كيف لم يقل أموراً مشابهة من قبل". ويضيف: "ما يقلقني أساساً في خطاب أوباما هو الحماسة الزائدة لإرضاء الجمهور. تخوفي هو أنه يوجد لمن يتحدث بمثل هذه الحماسة أمام مندوبي مؤتمر إيباك عشية الانتخابات، بديلان مقلقان: إما أن يكون أوباما يقول لمستمعيه كل ما يرغبون في سماعه، وأكثر بقليل، لهذا فمن شأنه أن يقول أيضاً على منصات خصومنا ما يريدون أن يسمعوه، أو أنه بعد أن ينتخب سيواصل ذات الاتجاه ويفعل كل شيء، مثل الرئيس الحالي، كي يرضي اليمين الإسرائيلي، في ظل تجميد المسيرة السياسية وتدمير فرص التوصل إلى سلام". إسرائيل واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة يعرفان احتمالات مواقف أوباما وكونها "مزدوجة" لإسرائيل، لذلك فمن المؤكد أنهما سيمارسان الابتزاز لإبقائه تحت الضغط ووضعه بصورة متواصلة في موقع الساعي لاثبات صدق وحسن نواياه تجاه إسرائيل واليهود في العالم. فهل ينجح حقاً في تطبيق شعاره "التغيير" في التعامل مع إسرائيل؟!