حال الثقافة العربية -في التعاطي مع الموروث القيمي والاجتماعي- سواء من المنظور التاريخي المحض، قبل الإسلام، أم من المنظور اللاحق لمجيء الإسلام، لا ينبئ عن أن هذه الثقافة يمكن أن تشفى من أدرانها أو انزياحاتها السلبية على مساحات الحياة العامة في العالم العربي. وهذا ما حدا ببعض الكُتاب إلى تصوير هذا الحال بمشهدين، الأول: إبيقورية العربي الجاهلي من حيث معايشته اللحظة وتداعيه معها، دون التفكير في المستقبل. الثاني: كونه "رواقياً" ينظر للغيب نظرة قائم بأمر الغيب من خلال أصنام يصنعها وأوثان يتعبد بها ويتقرب بها إلى الله زلفى، ثم يتخلص منها إن شاء، ولربما أكلها إن كانت مصنوعة من مادة قابلة للأكل. وكانت قضية الوجودية من خلال الشعر العربي، المتحررة من منظومة القيم قد برزت في مواقع كثيرة. حيث كرّست الفردية والنزعة الدهرية. ولما جاء الإسلام كان الصراع واضحاً بين عرب الجاهلية -حيث عارضوه لأنه كان سيخرجهم من الدائرة الرحبة للحرية الوجودية التي يتمتعون بها. حتى انتصر الإسلام في المجتمع الصغير -مكة المكرمة والمدينة المنورة- ثم انتشر إلى بقاع شتى من العالم. وصار أن تعمّقت روح ثقافة "الواحدية" بحيث رفضت أشكال التعددية! وكرّست هذه الروح (الأنا) المتميزة في المخيال الاجتماعي عن كل الخلق. وحمل إلينا الشعر العربي نماذج عديدة من هذه "الواحدية" التي تأصلت في أمخاخ الأجيال العربية، وتم تلقيح التعليم التديني "الوضعي" بهذه "الواحدية" الاستنسابية الهوائية، ونجح هذا التلقيح في تطويع ومغالبة التيارات الثقافية الثنائية والتعددية. هذا الاتجاه لـ"الواحدية" أيضاً أكدته النزعة العشائرية التي سادت المجتمع العربي قبل تحضير الناس وإقامة المدن وتطويرها. فكان الإنسان -في الصحراء- هو الملك والحاكم والمنتصر، وكان شيخ العشيرة هو المرجعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون منازع. وإذا ما طرأ أي شكل من أشكال "تهديد" هذه "الواحدية" -حتى وإن كان هذا التهديد عبر أحد أفراد العشيرة من الناصحين- فإن ما يقوله شيخ العشيرة هو الفيصل، حتى وإن كان حكمهُ قطع رأس ذاك الناصح أو طرده من العشيرة ليكون لحماً للذئاب وقطاع الطرق. ومع تطور المجتمع العربي -القرون اللاحقة- وزوال الدويلات، حتى انهيار الدولة الإسلامية والحاقها بالأستانة، وظهور الاستعمار الجديد وتقسيم البلاد العربية على طريقة اتفاقية "سايكس- بيكو" وغيرها! وقيام الثورات العربية في بعض البلدان عبر انقلابات الجيش فإن "الواحدية" لم تبارح الذهنية العربية التي ارتهنت بتفكير الحاكم. وظلت ترخي بظلالها حتى في النظم التي رفعت الشعارات الثورية وبشّرت بزوال حكم "الطغيان"، وقيام الدولة الجديدة التعددية، ومنح الحريات وإقامة الحكم الرشيد. إلا أن الجماهير العربية فوجئت بأن روح الشاعر القديم مازالت حاضرة: "فاحكمْ فأنت الواحد القهار" في بعض أكثر الأنظمة دعوة للحرية والديمقراطية والعدالة! فكان أن امتلأت السجون بكل النفوس التي صدّقت مقولات التعددية التي أعلنت عنها تلك الأنظمة ولم تطبقها، ولم تجد هذه النفوس بداً من الانفجار والمواجهة مع تلك الحكومات. بل إن تلك الأنظمة أصبحت تستحضر صور الماضي السلبية للأمة، وقامت بعملية التصنيف والتوصيف القائم على العصبية وإغلاق عين الحاكم عما يجري من أعمال تسيء إلى الصبغة الإنسانية للمواطن. وبعد أن تطور أمر "الحاكمية العربية" وصار التنازع حول مفاهيم التحضر والتخلف، اشتبك الحكم مع رجال الدين! وهو ناموس خطر ومعقد ومثير. فالجماهير بسوادها الأعظم، وإن مجدت وعظّمت الحاكم، فإنها لم تزل مسكونة بالدين وثوابته، وهو يطغى على الولاء للدولة أو الحاكم. فظهرت طبقاً لذلك جماعات دينية متطرفة معروفة في الأنظمة الجمهورية أو الوراثية، مارست ليس الدعوة إلى تقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل تجاوزت ذلك إلى تكفير الحاكم، بل والإفتاء والمشاركة في قتله، بعد الاتفاق على مروقه وخروجه على خطوط السير "الإسلامية". واستمرت عملية "التصنيم "ردحاً من الزمن -مع تغييب رأي الجماهير العربية- في مرحلة الاستعمار أو الانتداب، وساهمت الدول الاستعمارية الغربية مساهمة واضحة في ترسيخ "أوثان" عديدة في الذاكرة الثقافية العربية والإسلامية، ولم يكن للجماهير العربية العريضة أي رأي فيما تجبر عليه. وكان الاتجاه آنذاك أن المطالبة بالحقوق العامة قد تعتبر انتهاكاً لقدسية "الحاكمية" وخروجاً على طاعة ولي الأمر. وتتطور ثقافة "التصنيم" لتصل إلى الإعلام والثقافة! فلا كتاب يخرج إلا بمباركة تلك المرجعية! ولا برنامج يبث دون أن يحظى برعايتها! ولا جريدة تصدر دون أن تمهرها بمهر الرضا والقبول وضمان الولاء وعدم الخروج عن الصراط المستقيم! وهكذا نجد تلاشي المهنية -في الثقافة والإعلام- وبروز صورة "الأحادية" بشكل مكثف ومكرر، دون أن يلتفت القائمون على الثقافة والإعلام إلى الآثار السلبية لتسليع "التصنيم" في عقول الناس، بل إنهم لا يسمعون ردود الأفعال Feed backs لكل ما يقدمونه في مشاريعهم الثقافية ودوراتهم البرامجية الإذاعية والتلفزيونية! وكي تضمن بعض الأنظمة إرساء وغرس "الواحدية" في نفوس الناس، تقوم باختيار بعض أحاديي النظر ممن لا يؤمنون بالتعددية. وفي مناخ كهذا ينحو المجتمع نحو وسائل الإعلام والثقافة على أنها الأفضل والأعقل؛ وإلا لما نهجت ذلك النهج! وبالتي يتم وصم أي رأي مخالف لرأي الواحدية بالمشاكسة! ويقع المثقف العربي في حيرة من أمره -مرة أخرى- حين يشهد إعلانات التعددية في أكثر من بلد عربي. ويكاد يصدّق دعاوى الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية! وهي من الشعارات التي تحسن آلة الإعلام تصديرها إلى الخارج والداخل. لكن هذه الآلة تعجز بل وتجبن عن أن تواجه الجماهير بنماذج التعددية أو مناقشة حالات "الواحدية" الطاغية على القرار. وتتضاعف حالات الالتباس عندما لا يستطيع القضاء نصرة صاحب الحق! أو أن تتدخل يد "الواحدية" في قرار القضاء، تماماً كما تحرم الجماهير من نعمة حق المشاركة في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبذلك يتم تحقيق هدف "الواحدية"! وقد تتطور الأمور في العالم العربي والإسلامي لتواجه "الواحدية" ضغوطاً خارجية وداخلية من أجل إعطاء المواطنين حقوقهم المشروعة بعيداً عن سلطة العشيرة أو فزعة الأهل! وتصبح المشاركة في القرار من المسلَّمات في عصر الألفية الجديدة، لكن سوء الحظ دوماً ينتصب أمام دعاة التجديد أو المطالبين بالحريات، وهذا ما أدى إلى معاضدة المؤسسة الدينية لـ"الواحدية" ما عزز سلطتها وقوتها بل ودعَّم تبادل المصالح بين مؤسسة الحكم ومؤسسة الدين. فصار أن انشقت المؤسسات الديمقراطية أو تلك المطالبة بالإصلاح على أنفسها، وباتت "الواحدية" تتفرج -باسمة- على المشهد! فالإسلامويون -في بعض البلاد العربية- يسيطرون على البرلمانات ويحرجون الحكومة في برامجها الانفتاحية والتنموية، وبعضهم يريد العودة بالمجتمع إلى ثقافة (العشب والكلأ) ومربع الحريم وتجارة المقايضة! وبعضهم يتمادى في المطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع (الدول المارقة الغربية) ويرفض تواجد جيوشها في المنطقة! أما الليبراليون في البلدان الجمهورية "الشمولية" فقد وجدوا أنفسهم مشتتين وغير متفقين على برنامج عمل أسوة بالإسلامويين! في الوقت الذي تلاشت فيه آمالهم بدعم خارجي أو ضغط على الحكومات للالتفات لبرامجهم الإصلاحية أو مطالباتهم العادلة. لذلك أمنت "الواحدية" أثر أو شرَّ هذه الفئة المحدودة التي تقض مضجعها، وهي الفئة التي تنبش في الزوايا الضيقة والتي قد تظهر "مثالب" تحرجها مع الجماهير. وأخيراً، فإن المؤسسة الدينية ذاتها تساهم مساهمة واضحة في عملية "تصنيم" الواحدية عبر الخطابات والمقالات والكتب وأحاديث الإذاعة والتلفزيون! فمن أين يأتي الأمل أو الوعي بالتعددية، وكيف للعربي أن يحلم بغد ديمقراطي يزيل غبار "خيل السلطان" أو أنات قاطني السجون الذين لم يصنعوا تماثيل يعبدونها ولا يستسيغون التهامها على الطريقة الجاهلية!