لا يبدو أن هناك سبباً واحداً قوياً يمكن أن يدفع إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما للاهتمام بقضية فلسطين، ناهيك عن أن تضعها في مكان متقدم على جدول أعمالها، وهي مثقلة بأزمات كبيرة، اقتصادية وسياسية واستراتيجية وعسكرية... أزمات تغطي الكرة الأرضية تقريباً من شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية، مروراً بالشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وغيرها. لذلك، لا يصح تحميل وعد وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس للسلطة الفلسطينية في رام الله بشأن "نقل مسار أنابوليس إلى إدارة أوباما" أكثر مما يحتمل. فأقصى ما تستطيعه رايس هو إطلاع الفريق الذي سيختاره أوباما للسياسة الخارجية والأمن القومي على مسار المفاوضات منذ انطلاق أنابوليس قبل عام وحتى اللحظة الآن. لكن شتان بين قيامها بإطلاع فريق أوباما على مسار المفاوضات، بشكل عام، وبين وثيقة رسمية تفصيلية تصدر عن اللجنة الرباعية الدولية لو أن اجتماعها فى شرم الشيخ الأحد الماضي أسفر عن توثيق حصاد هذه المفاوضات. كان هذا التوثيق مطلبا فلسطينياً لم يجد استجابة له، خشية إضعاف مركز وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في معركتها الانتخابية الصعبة على رأس حزب "كاديما" في مواجهة بنيامين نتانياهو. لذلك فاتت الفرصة الأخيرة لتوثيق مسار المفاوضات قبل تنصيب الإدارة الجديدة، التي لن يكون أمامها والحال هكذا سوى صورة عامة تفيد بأن كوابح كل من الطرفين المتفاوضين تفوق قدرتهما على التوصل إلي اتفاق سلام. والأرجح أن يكون الانطباع المترتب على هذه الصورة لدى الإدارة الجديدة هو أن الرعاية الأميركية للمفاوضات خلال العام الأخير لإدارة بوش لم تحقق شيئاً رغم الوقت والجهد اللذين خصصتهما رايس لهذا الملف عبر نحو عشر زيارات من بين 19 زيارة قامت بها إلى المنطقة. وأياً تكون الطريقة التي ستعرض بها رايس حصاد أنابوليس، فالمتوقع أن يصل فريق أوباما إلى استنتاج ما يلي: إذا كانت إدارة بوش الثانية قد أعادت إنتاج الفشل الذي منيت به إدارتا بيل كلينتون، فماذا تستطيع الإدارة الجديدة فعله، ولماذا تخصص وقتا وجهداً لعملية محكوم عليها بالإخفاق وهي في أمس الحاجة إلى كل دقيقة لمعالجة تركة ثقيلة لم يرث رئيس أميركي مثلها حجماً ونوعاً منذ نحو ثمانية عقود؟ وهكذا تبدو تجربتا كلينتون الذي انغمس في إدارة مسار أوسلو منذ سبتمبر 1993 حتى مطلع يناير 2001، وبوش الذي راهن على مسار أنابوليس لتعويض بعض إخفاقاته في الشرق الأوسط، سبباً أولاً قوياً يدفع إدارة أوباما إلى طي ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية تحت شعار أنه ليس في الإمكان القيام بأكثر مما كان. لكن هذا ليس السبب الوحيد. فالانقسام الفلسطيني الذي لا تبدو له نهاية يعتبر سبباً ثانياً لا يقل قوة. وقد فشلت، مجدداً، المحاولة التي بذلتها مصر لتنظيم حوار وطني فلسطيني يضع حداً لهذا الانقسام الذي يزداد رسوخاً يوماً بعد يوم. وعندما تتولى الإدارة الجديدة السلطة رسمياً عقب تنصيبها في 20 يناير المقبل، ربما يكون فصل جديد في الانقسام الفلسطيني قد بدأ بشأن شرعية استمرار الرئيس محمود عباس في موقعه. ففي التاسع من يناير المقبل، يكمل "أبو مازن" سنته الرابعة في رئاسة السلطة، في الوقت الذي يستحيل عملياً إجراء انتخابات جديدة. وقد استعد قانونيو سلطته وحركة "فتح" بتفسير قانوني يجيز مد رئاسته لمدة عام من أجل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية متزامنة في يناير 2010، على أساس أن المجلس التشريعي الحالي المنقسم على نفسه منتخب في يناير 2006. وكانت حركة "حماس" قد رفضت هذا التفسير، وأعلنت أنها لن تعترف بشرعية عباس اعتباراً من 10 يناير القادم، ثم تراجعت وأبدت استعداداً لقبول مد رئاسته لكن ضمن اتفاق شامل للمصالحة كان مفترضاً أن يصدر عن الحوار الوطني. أما بعد تأجيل هذا الحوار، وفي غياب مقومات كافية لنجاحه، فربما تكون شرعية الرئيس عباس هي المعركة الحامية القادمة التي سينشغل بها الفلسطينيون. ويعني ذلك أن إدارة أوباما ستبدأ عهدها غالباً بمتابعة مشهد فلسطيني بائس يكفي لتثبيط عزيمة من يرغب في دفع العملية السلمية، وتأكيد اقتناع من لا يرى جدوى لها وتثبيته. ولا ينبغي القياس هنا على تجربة إدارة بوش الثانية عندما أطلقت مسار أنابوليس عقب حدوث الانقسام الفلسطيني. فهذا قياس لا محل له لعاملين: أولهما أن بوش كان مضطراً إلى البحث عن أي سبيل لتحقيق أي قدر من النجاح، أو حتى الإيحاء بأنه قادر على المبادرة في الشرق الأوسط بعد أن فشل مشروعه الكبير لهذه المنطقة وغرست قدماه في العراق الذي صار نموذجاً للفوضى والاضطراب بينما هدف الرئيس الحالي ورجاله أن يجعلوه نموذجاً للديموقراطية. ولذلك، فعندما سعى بوش إلى القيام بتحرك ديبلوماسي يلقى قبولاً عربياً دولياً، على طريقة التاجر الذي يفلس فيفتش في دفاتره القديمة عما يكون قد بقي له، وجد فكرة الدولة الفلسطينية التي كان قد طرحها كشعار أكثر منه سياسة تحت اسم "دولتان لشعبين". كما أن الانقسام الفلسطيني كان، حينئذ، في مهده. فعندما دعا بوش إلى مؤتمر للسلام دون تحديد (مؤتمر أنابوليس فيما بعد) للمرة الأولى، لم يكن قد مضى على موقعة غزة سوى أقل من أسبوعين. وقد أقنعه بعض القادة العرب حينئذ بأن تحريك المسار السلمي الفلسطيني -الإسرائيلي هو خير دعم يمكن تقديمه لسلطة محمود عباس في مواجهة "حماس" التي انقلبت عليها في غزة و"استقلت" بها. وهذا ظرف مغاير تماماً لذلك الذي سيتولى أوباما في ظله الرئاسة، بعد أن صار الانقسام الفلسطيني حقيقة راسخة ومن ثم سبباً قوياً لإدارة الظهر للعملية السلمية. لكن الفلسطينيين ليسوا وحدهم المسؤولين عن انصراف أوباما المتوقع عن قضيتهم. فالتشدد الإسرائيلي الذي أضعف السلطة الفلسطينية هو أحد أهم عوامل تنامي نفوذ "حماس" وصولاً إلى فوزها في انتخابات يناير 2006 التشريعية، ثم سيطرتها على غزة. والأهم من ذلك، في اللحظة الراهنة، أن أوباما سيدخل البيت الأبيض وأمامه مشهد إسرائيلي واضح في عدم استعداده للسلام. وما خشية رايس من توثيق حصاد مسار أنابوليس إلا تعبير واضح عن ذلك. فعندما تخجل ليفنى من توثيق هذا المسار، وبالتالي إعلان تفاصيل ما وافقت عليه خلال تلك المفاوضات رغم ضآلته حجماً ونوعاً، فهذا يعني أن الاستعداد لإبرام سلام مع الفلسطينيين أصبح أمراً مشيناً في إسرائيل. وعندما يكون هذا الذي تخجل ليفني من كشف تفاصيله أقل مما عرضه أيهود باراك على ياسر عرفات في مفاوضات كامب ديفيد الثانية في يوليو 2000، ومما قبله الوفد الإسرائيلي في مفاوضات طابا في ديسمبر التالي ومطلع يناير 2001، فهذا يعني أن "الميل السلمي" العام في إسرائيل آخذ في التراجع. وهذا ما يؤكده إقدام أبرز قادة معسكر السلام في إسرائيل يوسي بيلين على اعتزال العمل السياسي عموماً وليس فقط الاستقالة من حزبه (ميريتز). وقد جاء اعتزال بيلين في آخر أكتوبر الماضي ليعطي مؤشراً جديداً وقوياً على أن إسرائيل ليست جاهزة لأي سلام، ناهيك عن أن يكون سلاماً حقيقياً. وهذا سبب ثالث يدفع إدارة أوباما إلى طي صفحة مسار أنابوليس، وعدم الانشغال بالبحث عن بديل له. ويبقى سبب رابع يجعل الانصراف الأميركي عن هذه المسألة مرجحاً، وهو تآكل الأساس الذي قامت عليه الجهود السلمية منذ مسار أوسلو، أي حل الدولتين. فالاستيطان الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني يجعلان هذا الحل اليوم أكثر صعوبة مما كان عليه عندما بدأ ذلك المسار في عام 1993، وحين قاد إلى أول مفاوضات حول حل نهائي يتضمن إقامة دولة فلسطينية في عام 2000. وعندما يدعو المفاوض الفلسطيني الرئيسي، وهو أحمد قريع (أبوعلاء)، إلى البحث في إمكان حل الدولة الواحدة (ثنائية القومية) بسبب تآكل حل الدولتين، فليس لنا أن نتوقع مساهمة كريمة من إدارة أوباما المثقلة بالأزمات والهموم في عمل لا يبدو مجدياً. ولذلك كله، سيكون ميل هذه الإدارة إلى طي الصفحة الفلسطينية منطقياً ومفهوماً. لكن هذا لا يعني أن يطويها العرب بدورهم. فالعكس تماماً هو المفترض أن يحدث. فلم يكن الفلسطينيون في حاجة إلى دور عربي لإنقاذهم أكثر مما هم اليوم. ولكن المطلوب هذه المرة هو إنقاذهم من أنفسهم في المقام الأول.