كل ما قيل عن الدلالة التاريخية لانتخاب باراك أوباما كأول أميركي من أصل أفريقي رئيساً للولايات المتحدة، لا يبتعد عن الحقيقة أبداً. فهذا الحدث تعبير واضح عن المخزون الحضاري للثقافة الأميركية، وعن حيوية هذه الثقافة، وقدرتها على التفوق على نفسها. لكن كل ذلك يبقى ضمن حدود خصائص المجتمع الأميركي. وحدث بحجم وأهمية انتخاب رئيس مثل أوباما لأقوى دولة في العالم، يتجاوز ذلك بما ينطوي عليه من دلالات وتبعات سياسية بالنسبة للأوضاع السياسية في العالم على مدى السنوات الأربع القادمة. أي رئيس سيكون أوباما؟ كيف ستكون إدارته؟ وما هي خياراتها في موضوع السياسية الخارجية؟ إلى أي حد سيخضع لمقتضيات ومصالح المؤسسة في واشنطن، والتي يقول إنه جاء لتغييرها؟ بعد الاحتفال العالمي المشروع بانتخاب هذا الشاب الأسمر سيتضح أن الأسئلة المحيطة بدوره كرئيس لأميركا أكثر مما نتصور. وهذا ليس لأنه رئيس جديد، وإنما أيضاً لأنه حديث على المشهد السياسي، وليس في خلفيته ما يكفي لإعطاء بعض المؤشرات حول سياساته المتوقعة. نائبه، جو بايدن، أكثر وضوحاً وأكثر مدعاة للحذر. هل تغلب خبرة بايدن وسنه على حداثة خبرة أوباما وشبابه؟ في منطقة الشرق الأوسط، مجال اهتمامنا المباشر، هناك ملفات كثيرة ستفرض نفسها على إدارة أوباما: ما يعرف بعملية السلام، والوضع في العراق، ومسألة الأمن في الخليج، والدور الإيراني، والوضع في لبنان... إلخ. بسبب ضيق المساحة سأتناول في هذه المقالة موضوعاً واحداً فقط: الأمن في الخليج العربي على ضوء البرنامج النووي الإيراني. في مقالات لاحقة سأتناول على الأقل بعضاً من المواضيع الأخرى. اضطراب الوضع الأمني في الخليج بقي هو الحالة السائدة لما يقرب من ثلاثين سنة حتى الآن. هناك سببان رئيسيان لهذه الحالة: الأول اختلال موازين القوة العسكرية في المنطقة لأسباب سياسية بحتة، والإبقاء على ذلك لفترة طويلة جداً. والثاني هو الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. نبدأ بالسبب الأول والأهم. بعد خروج بريطانيا من الخليج عام 1971 كانت معادلة توازنات القوة العسكرية في الخليج العربي تقتصر على ثلاثة أطراف: العراق، إيران الشاه، والولايات المتحدة عن بعد أو التواجد العسكري الأميركي في الأفق. في عام 1979 أزاحت الثورة الإيرانية أحد أعمدة المعادلة أي نظام الشاه، وهذا أزال معه الالتزام الإيراني بمقتضيات المعادلة التقليدية. أضعفت الثورة في سنتها الأولى الدولة الإيرانية. ومع غياب دول مجلس التعاون عن المعادلة أصلاً، وبقاء أميركا بعيدة في الأفق، والجنوح الثوري الإيراني، كل ذلك أدى إلى انهيار المعادلة، ومن ثم انفجار الحرب العراقية الإيرانية. وهنا دخلت المنطقة ما عرف حينها بمرحلة الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران. جاء الغزو العراقي للكويت عام 1990 ليؤكد ضرورة الإبقاء على فكرة التوازن بين العراق وإيران. لكن الجديد في الأمر هنا أن الطرف الأميركي في معادلة الأمن انتقل من حالة وجود في الأفق، إلى وجود عسكري ضخم ومباشر في مياه وأراضي الخليج العربي لأول مرة. شكلت البنتاجون الأسطول الأميركي الخامس في مياه الخليج، وظهرت القواعد العسكرية الأميركية في كثير من دول المجلس. وهذا سهل- كما يبدو- من المهمة الأميركية في تطبيق فكرة الاحتواء المزدوج. أخيراً جاء الاحتلال الأميركي للعراق، ليخرج هذا البلد العربي تماماً من معادلة توازنات القوة في المنطقة. وبقيت هذه المعادلة محصورة بين إيران والولايات المتحدة. اللافت أن الثابت في كل ذلك كان ولا يزال أن دول مجلس التعاون لا تملك القدرة العسكرية التي تتناسب مع حجمها الجغرافي والسكاني والاقتصادي، ولا مع موقعها الاستراتيجي. وهذا تحديداً، أي افتقاد هذه الدول للقدرة العسكرية، هو المصدر الأول لاختلال توازن القوة في المنطقة. المصدر الثاني لهذا الاختلال هو الوجود العسكري الأميركي غير المباشر أولاً، والمباشر حالياً. الهدف المعلن لهذا الوجود كان ولا يزال تحقيق شيء من التوازن، أو تعويض الغياب الخليجي عن المعادلة. لكن تكمن في هذا الوجود ثلاث مشاكل: أولا أنه غير مقبول سياسياً من شعوب المنطقة، وبالتالي فهو يشكل حرجاً لدولها. ثانياً أنه لا يمكن أن يعوض إلا بشكل مؤقت الدور الطبيعي لدول المنطقة في موازين القوة في بيئتها الطبيعية المباشرة. ثالثاً أنه يربط دول المنطقة بحسابات سياسية واستراتيجية تخص الولايات المتحدة وخارج سيطرة هذه الدول. وإلى ذلك فإن الوجود العسكري الأميركي هو مصدر استغلال سياسي من قبل أطراف إقليمية لتحقيق مكاسب سياسية لها على حساب دول الخليج نفسها. وحتى مع التقليل من أهمية كل هذه المصادر، تبقى حقيقة ملموسة، وهي أن الوجود العسكري الأميركي لم يؤد إلى التقليل من تدهور الوضع الأمني في الخليج العربي. على العكس، ربما، وللأسباب السابقة، فاقم من هذا التدهور. وهنا يأتي البرنامج النووي الإيراني في الصورة، ويمثل مؤشراً جديداً وخطيراً على مستقبل الوضع الأمني في الخليج. لهذا البرنامج علاقة بالوجود العسكري الأميركي. فهذا الوجود هو أحد العوامل المهمة التي غذت الطموح النووي الإيراني. السؤال: كيف سيختلف تعاطي إدارة أوباما مع هذا الموضوع عن الإدارات السابقة؟ يقول أوباما إنه مع فكرة الحوار غير المشروط مع إيران، وهدفه الأخير من ذلك إقناع إيران بالتخلي عن طموحها لامتلاك السلاح النووي. لكن ماذا لو لم تقتنع؟ بل ماذا لو أن إيران، وهذا هو الأرجح، وظفت الحوار لشراء الوقت لإكمال برنامجها النووي؟ والسؤال الأهم: هل من الممكن أن تتخلى إيران عن طموحها النووي؟ هي دولة محاطة بترسانات نووية في باكستان والهند وإسرائيل، إضافة للسلاح الأميركي الذي يحيط بها على شكل حزام عسكري يمتد من قاعدة غارسيا في المحيط الهندي جنوباً إلى قاعدة إنجرليك في تركيا شمالاً. وإيران تفتقد للعمق الاستراتيجي، وقد حصلت على مكاسب سياسية في العراق ولبنان لم تكن تحلم بها هكذا من دون ثمن. هل يمكن لإيران أن تعوض عن فقدانها للعمق الاستراتيجي، وأن تحمي نفسها داخل الحزام العسكري النووي الذي يحيط بها، وأن تحافظ على مكاسبها الاستراتيجية من دون سلاح نووي؟ هذا غير ممكن، بل يقترب من الاستحالة. ما هو موقف إدارة أوباما في هذه الحالة؟ هل ستدفع بالمنطقة إلى حرب جديدة؟ أم أنها ستدخل في تفاهم مع طهران، انطلاقاً من قبول سلاحها النووي كأمر واقع لا يمكن تفاديه؟ سؤال آخر: ما هو موقف إدارة أوباما من اختلال توازنات القوة المزمن في الخليج العربي بشكل عام؟ لن يختلف على الأرجح موقفها من هذه القضية عن موقف الإدارات السابقة. لأن إحدى ركائز السياسة الأميركية في المنطقة هي الإبقاء على هذا الاختلال كمبرر لدورها وتواجدها العسكري بحجمه الحالي. من ناحية أخرى، امتلاك إيران لسلاح نووي سيكرس فكرة أنها الدولة الأقوى في المنطقة، وأن طموحها للهيمنة يجب أن يكون مقبولاً. لكن تحول إيران إلى دولة نووية سيغير من خريطة توازنات القوة في الشرق الأوسط ككل، الأمر الذي يعني أن تداعيات هذا التطور ستمتد إلى خارج الخليج. إحدى نتائج ذلك ستكون دخول المنطقة سباق تسلح خطير، هذا مع افتراض أن إسرائيل لن تلجأ لضربة استباقية عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. فكرة الحوار مع إيران جيدة ومطلوبة. ما يفتقد للوضوح في موقف أوباما المعلن هو الهدف من هذا الحوار، والبدائل التي تنطوي عليها سياسته تجاه الموضوع. الحوار غير المشروط كما يطرحه أوباما يهدف إلى تسهيل التفاهم معها، وبالتالي يمكن القول بأن التفاهم مطروح بشكل جدي كخيار لدى الإدارة الجديدة. لكن مرة أخرى: ما هو أساس هذا التفاهم؟ هل هو على أساس تخلي إيران عن طموحها النووي، وتعويضها عن ذلك؟ وما معنى التعويض في هذه الحالة؟ أم أنه تفاهم قد يفرض نفسه على أساس أن إيران النووية أصبحت أمراً واقعاً؟ وهل أمر هذه الخيارات مطروح على هذا النحو في التفكير السياسي الأميركي والأوروبي؟ أم أن خيار التفاهم مشروط بتخلي إيران عن طموحها النووي؟ ثم ما هي حدود التفاهم وأهدافه؟ وأين موقع دول مجلس التعاون في موضوع التفاهم هذا؟ حقيقة أن الموضوع يفرض نفسه بهذه الطريقة يشير مرة أخرى إلى تبعات اختلال موازين القوة في المنطقة، وآثاره على طريقة التعاطي مع قضية الأمن، والدور الإقليمي لكل الدول فيها. أمام هذا الكم من الأسئلة: ما هو موقف دول مجلس التعاون من مسألة اختلال التوازن، ومن الإدارة الجديدة؟ هل ستتغير طريقة تعاطيها مع واشنطن بعد تجربة "المحافظين الجدد"؟