في منتدى "الاتحاد" السنوي الثالث والذي انعقد في أبوظبي 20-21 أكتوبر المنصرم، وهو تقليد فذّ، درجت عليه صحيفة "الاتحاد" حيث يجتمع كُتاب "وجهات نظر" حول موضوع مُختار، أعدت حوله أوراق تُطرح للنقاش والحوار... كان موضوع هذا العام "الدين والمجتمع في العالم العربي"، وكان من أهم محاوره، دور الجماعات الدينية السياسية في الاستقرار السياسي للمنطقة. وكان أهم وأخطر أوجه النقد الموجهة إلى هذه الجماعات والحركات السياسية الدينية سواء في منطقة الخليج أو على امتداد العالم العربي والإسلامي، أن هذه الجماعات الدينية بمختلف أطيافها وألوانها تمثّل مشاريع "تفكيكية" للدولة الوطنية المعاصرة، فهي في سعيها إلى "أسلمة المجتمع" تمهيداً لتكوين وإنشاء دويلتها أو إمارتها الدينية، لا تبالي بالوحدة الوطنية ولا الدولة الوطنية الواحدة، كما لا تتورّع في سبيل الوصول إلى السلطة والانفراد بها وإدامتها والبطش بخصومها، عن الاستقواء بالقوى الإقليمية الخارجية التي توفر لها الدعم والتمويل والمساندة السياسية والدولية، ضماناً لاستمرار مصالحها في المنطقة. لقد مرّت هذه الملاحظة الهامة دون أن تأخذ حقها في النقاش، وأراها فرصة مناسبة لمناقشتها في هذه المقالة. الناظر والمطل على المشهد العام العربي والإسلامي، يجد شواهد عديدة تدعم تلك الملاحظة الناقدة، وهي حقيقة مُفزعة تجسدها كافة حركات المعارضة السياسية التي تتوسل بالدين سبيلاً إلى السلطة، وتتهم الأنظمة القائمة بأنها لا تطبق الشريعة وأنها تمالئ الغرب وتنفذ أجندته في محاربة الإسلاميين. كافة هذه الحركات ولاءاتها عابرة للحدود والقواسم الوطنية الجامعة إلى أيديولوجية دينية حالمة، إنها تسعى جميعاً إلى استعادة نظام "الخلافة" وإحيائه من جديد، ظناً -خاطئاً- أن المسلمين في الماضي كانوا موحدين في ظل الخلافة الإسلامية، وهو تصور لا تاريخي وتكذّبه الانقسامات السياسية والحروب المستمرة بين المسلمين على امتداد قرون متطاولة في ظل ما سمي بحكم الدويلات والطوائف والممالك الإسلامية. ولعل أبرز النماذج المعاصرة على صدق الملاحظة ما تمثله جماعة "حماس" سواء كسلوك سياسي أو أهداف أيديولوجية، لقد نشأت "حماس" كخلية "إخوانية" فلسطينية، ومنذ ولادتها اكتسبت الكثير من سمات التنظيم "الإخواني" الأم في المكر والانتهازية واتهام الخصوم وتخوينهم واحتكار الدين والوطنية وخلعهما عن الخصوم السياسيين وعدم التورّع عن استخدام العنف ضدهم والاستقواء بالخارج وقبول دعمه وتمويله وعدم الإيمان بالديمقراطية ومصادرة الانتخابات بعد الوصول إلى السلطة على طريقة "تصويت واحد ولمرة واحدة وللأبد"، والانقلاب على الشرعية... إلخ. تكونت "حماس" كمشروع تفكيكي وانقلابي على السلطة الفلسطينية الممثلة في "فتح" بوصفها "علمانية" متخاذلة مع العدو الصهيوني، وأنها الممثلة الشرعية الحقيقية والمقاومة الحارسة للحقوق الفلسطينية، وهي منذ انقلابها الدموي في يونيو2007 وانفرادها بحكم غزة لم تتوان لحظة في تدعيم سلطتها ومطاردة خصومها وتصفيتهم مما اضطرهم للجوء إلى إسرائيل طلباً للحماية، وقد قامت "حماس" خلال فترة حكمها على امتداد سنة وبضعة أشهر بعمليات "حمسنة" شاملة لكافة المفاصل والقطاعات المجتمعية في غزة توطيداً لإماراتها الإسلامية، وهي إذ تتلهف وتتوسل وتسوق الوساطات طلباً للحوار والمصالحة، فكل ذلك غطاءً ظاهرياً، لأنها يستحيل أن تتراجع عن انقلابها وتتنازل عن السلطة التي دفعت ثمناً باهظاً في سبيلها. ومن يظن أن "حماس" تقبل الحوار والمصالحة الوطنية، وكي تعود الأمور في غزة إلى ما كانت عليه، فهو واهم. ومصداق ذلك أن "حماس" بعد أن وافقت على الورقة المصرية للمصالحة الفلسطينية والتي هي بلورة وانعكاس للقواسم المشتركة التي وافقت عليها الفصائل الفلسطينية جميعها على امتداد 3 أشهر من الجهود المصرية المضنية لجمع الفلسطينيين في القاهرة لإجراء الحوار الوطني الفلسطيني الشامل، تراجعت "حماس" وأعلنت مقاطعتها للحوار والمصالحة وقبل يوم واحد من الاجتماع، مما جعل مصر ترجئ الحوار الوطني إلى أجل غير مسمى، وتقول: "لقد ضاعت الفرصة التي وفرتها مصر وبذلت من أجلها جهوداً شاقة ومضنية من أجل تحقيق المصالح الوطنية وتوحيد الصف الفلسطيني وإعادة اللحمة للشعب الفلسطيني". لكن لماذا قاطعت "حماس" الحوار الوطني في القاهرة؟ لأن محور "الممانعة" والرفض، المدعوم من إيران بالسلاح والمال والدعم السياسي، ليس من مصلحته تحقيق المصالحة الوطنية في هذه المرحلة، كما يرفض هذا المحور أن تستعيد مصر دورها القومي في الساحة وتنجح في تحقيق المصالحة الفلسطينية وتشكل سداً منيعاً ضد تغلغل الدور الإيراني في المنطقة عبر الحلفاء الذين تسميهم إيران "جيوش الحرية" وتدعمهم بالسلاح والمال طبقاً لتصريحاتها. "حماس" مشروع تفتيتي أو انقسامي، وهي في سبيل إدامة سلطتها وإمارتها الإسلامية تتحالف مع إيران على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية ووحدتها الوطنية، بل وعلى حساب المصالح العربية العليا، ولا أدلّ من تصريح "أبومرزوق" المشكك في احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، "حماس" تعمل أكثر من ذلك من أجل السلطة الهدف الأسمى والحلم لكافة الحركات الإسلامية، وكما يقول السفير الفلسطيني نبيل عمرو، من أجل السلطة عرضت "حماس" هدنة تزيد على 15 سنة، ولإسرائيل أن تفعل فيها ما تشاء، ومن أجل السلطة قدّمت عرضاً بالموافقة على دولة ذات حدود مؤقتة، ظناً أن هذه الموافقة ستمنحها أفضلية عند صانع القرار الدولي على "فتح"، ومن أجل السلطة أبرمت اتفاق تهدئة، قدمت كل شيء، لقاء لا شيء، وأقدمت على اعتقال وحتى قتل من يطلق الصواريخ، وهي التي طالما اعتبرت الهدنة خيانة وتفريطاً في حق الشعب في المقاومة عندما كانت في المعارضة. المدهش أن الإسلاميين التزموا الصمت ولم ينتقدوا "حماس" على الهدنة وهم طالما انتقدوا "فتح" لمفاوضة إسرائيل. ولطالما ادعت "حماس" وكررت أن العقبة الوحيدة أمام الحوار الفلسطيني هو "الفيتو الأميركي"، واليوم عندما يتقرر الحوار بعد جهود ومعاناة تتنصل "حماس" وتقاطع! أليست هذه انتهازية مكشوفة؟ دويلة "حماس" في غزة، اغتيال للدولة الفلسطينية، ولا أمل في تحقيق المصالحة الوطنية ما دامت "حماس" في شغل شاغل في تعزيز دعمها بالداخل، مستغلة التهدئة مع إسرائيل من أجل معركة كسب قلوب وعقول أهل غزة بالأموال التي تأتيها من الخارج وهي اليوم تقاسم مهربي الأنفاق أرزاقهم، وغداً نسمع بدولة الأنفاق والنضال عبر الأنفاق وشهداء الأنفاق ومنظري الأسلوب النضالي "الأنفاقي". ما يصدق على حركة "حماس" يصدق على كافة الحركات الإسلامية الساعية لتقويض الدولة الوطنية المعاصرة بدءاً من "حزب الله" مروراً بالحوثيين والمحاكم في الصومال والجماعات الدينية في العراق والجزائر وباكستان... الساعية لتكوين دويلات دينية.