بين المشاهد الكثيرة التي بثتها الفضائيات عقب اللحظة التاريخية التي أُعلن فيها فوز أول أميركي ملون بمقعد الرئاسة الأميركية تسمرت عيناي على لقطة لجيسي جاكسون وهو يغالب دموعه، ويحاول التحكم في قسمات وجهه تأثراً بالحدث التاريخي. كان الرجل قد سعى يوماً للفوز بترشيح الحزب "الديمقراطي" في انتخابات الرئاسة، وكان الجميع في حينه ينظرون إلى مسعاه باعتباره عملاً رمزياً، غير أن التاريخ أثبت أنه يسير نحو الأفضل بين بني البشر، فلم يفز أوباما فقط بترشيح حزبه له، وإنما انتصر في نهاية الماراثون الطويل إلى البيت الأبيض. ولعل ما ضاعف الفرحة بهذه اللحظة الإنسانية -مهما كان رأينا في أوباما- أنها جاءت عقب واحدة من أحلك المراحل في التاريخ المعاصر للولايات المتحدة التي تولى الرئاسة فيها طيلة ثماني سنوات رئيس يحار المرء في وصفه: أيصفه بالجهل الذي جعله يقع فريسة لعصابة "المحافظين الجدد" في واشنطن فاتبع سياساتهم التي عانى منها العالم كله ابتداءً بالشعب الأميركي نفسه؟ أم بالتواطؤ مع تلك العصابة بدافع من المصالح المشتركة؟ وبعد لحظات الفرح بالانتصار تأتي مسؤولية التدبر، وتزداد التساؤلات عما ينوي أوباما فعله، وهي تساؤلات تكتسب أهمية خاصة لأنه يواجه وضعاً استثنائياً: عجز عن إحراز نصر في العراق، وعن وقف موجة الاختراق الإيراني له، ووضع متفاقم في أفغانستان، وبيئة دولية تتصاعد فيها التحديات التي تواجهها القيادة الأميركية للعالم، وأخيراً وليس آخراً الإعصار المالي الخطير الذي كشف عن سوءات السياسات الاقتصادية والمالية في عهد بوش بالطريقة نفسها التي كشفت بها الأوضاع في العراق وأفغانستان عن سوءاته السياسية. أول التساؤلات عن هوية الذين يتحدث أوباما باسمهم. فمن المؤكد أن أصوات ملايين الأميركيين الذين استطاع أوباما أن يصل إلى عقولهم وقلوبهم عبر برنامج يخاطب أوضاع الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وكاريزما خطابية قل أن توفرت لرئيس أميركي -من المؤكد أن تلك الأصوات هي التي حملته للبيت الأبيض، فهل سيكون الرجل قادراً على أن يفي بما قاله عن انتهاء عصر تأثير اللوبيهات والشركات على القرار في البيت الأبيض وأنه من الآن فصاعداً سيكون القرار للشعب؟ أم أن ثمة احتمالاً أن تكون هناك قوى تنتظر نصيبها من كعكة السياسات الجديدة في عهده؟ أما ثاني التساؤلات فمفاده الحيرة بشأن "الاستراتيجية" المحتملة لأوباما، فقد افتقد الرجل أحياناً -وبالذات في الشؤون الخارجية- رؤية استراتيجية متكاملة، فهو على سبيل المثال متحمس لانسحاب القوات الأميركية من العراق لاعتبارات معروفة، ولكنه يتحدث عن ضخ هذه القوات -أو جزء منها على الأقل- في الأراضي الأفغانية حيث المعركة الحقيقية ضد الإرهاب من وجهة نظره، وهو منطق تقرير "بيكر- هاملتون" إن كنا ما زلنا نذكره، وكأن أفغانستان لن تتحول بالتدريج إلى عراق أخرى تستنزف القوة الأميركية، بل إن المقاومة الأفغانية تبدو الآن في وضع أقوى من المقاومة العراقية على الأقل من زاوية السيطرة الفعلية على أجزاء من أفغانستان، ويعني هذا أن أوباما قد يكون في طريقه -إن لم يغير رؤيته- إلى أن يخلق لنفسه "عراقه" الخاص به. وحتى في المسألة العراقية سيواجه أوباما بمعضلة حقيقية، فالانسحاب "المنظم" من العراق لا يحل مشكلة تمدد النفوذ الإيراني فيه، وسيعتبر هذا إخفاقاً لسياسة أوباما "السلمية" في العراق، بل لنتخيل بصفة عامة أن أوباما قد اتبع سياسة تهدئة على كل الجبهات عدا أفغانستان، وترتبت على ذلك نكسات واضحة للسياسة الأميركية: حضور قوي للمقاومة والقوى الرافضة للاحتلال في السياسة العراقية، وتمدد ملحوظ للنفوذ الإيراني في العراق وغيره، وتفاقم للأوضاع في أفغانستان، ومزيد من التصعيد الروسي في الشؤون الدولية. لاشك أن أوباما إذا ما وجد نفسه في هذه الحالة قد يضطر إلى تغيير بعض ما وعد به ناخبيه، وسيؤثر هذا على صدقيته دون شك. ومن ناحية أخرى ثمة إجماع على أن علاج الأزمة المالية الراهنة لن يكون هيناً أو سريعاً، وهو ما يعني أن أوباما قد يحكم بضع سنوات من مدة رئاسته الأولى في ظل أوضاع اقتصادية متردية، وأن عليه إن أراد غير ذلك أن يقوم بعمل اقتصادي خارق للإسراع بالتخفيف من حدة الأزمة على الأقل. ويبقى الحديث ضرورياً بعد ذلك عن أوباما والعرب، وأفضل ما في الموقف العربي من أوباما أنه مبني بصفة عامة على اعتبارات "إنسانية" وليست سياسية إذا جاز التعبير، فمعظم العرب مرتاح لفكرة وصول أميركي ملون إلى كرسي الرئاسة، ليس من باب الأمل في سياسة أميركية أكثر عدلاً إزاء القضايا العربية، ولكن للقيمة الإنسانية الرفيعة التي يمثلها الحدث، وهي قيمة يأمل المرء في أن يتمثلها العرب، أما الأمل في تغير يحدثه أوباما إلى الأفضل في الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية وغيرها فهو شبه غائب، وعلى أقصى تقدير حذر للغاية، وربما يكون آخر عهد العرب بوهم العدل الآتي مع رئيس أميركي جديد هو وهمهم في عهد جورج بوش الابن الذي تصوروا أن سياسات منافسه آل جور ونائبه اليهودي سوف تجعل من بوش خياراً أفضل، غير أن مناعتهم قد اكتملت فيما يبدو بعد هول ما رأوه على يديه، فلم يعودوا -على رغم ابتهاجهم للمعنى الذي يحمله انتخاب أوباما- يأملون في أي رئيس أميركي جديد أي خير، وأصبحوا فيما يبدو واعين للمصالح التي تبنى عليها السياسة الأميركية، والتي تجعل الفروق بين الرؤساء غائبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وعلى أية حال فإن أوباما لم يخب أمل العرب منذ البداية، سواءً بتصريحاته إبان زيارته إسرائيل أو باختياره عقب انتخابه مباشرة إسرائيلياً شرساً منتمياً لعائلة يهودية ذات جذور إرهابية رئيساً لموظفي البيت الأبيض. لذلك فإن العرب مطالبون -للمرة الألف- بأن يدركوا أن التغيير الوحيد الذي يمكن أن يطرأ على السياسة الأميركية مبعثه هم وحدهم، وإذا كان البعض قد نسي فإن ثمة أمثلة كثيرة تؤكد هذا المعنى: فلم تلتفت السياسة الأميركية لحظة إلى مطلب العرب في السلام بعد هزيمة 1967 إلا بعد أن بلغت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية ذروتها في عام 1970، فهرول وزير الخارجية الأميركية آنذاك ويليام روجرز وقدم مبادرته الشهيرة لوقف إطلاق النار والشروع في التسوية، وتكرر الأمر نفسه قبل حرب أكتوبر 1973 إلى أن نشبت الحرب وأثبتت قدرة العرب، فهرول هنري كيسنجر طلباً لوقف إطلاق النار، وينطبق النموذج ذاته على الموقف الأميركي من العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. أترانا قد استوعبنا دروس هذه الخبرة الماضية؟ أم أننا ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الوقت لكي نضيف إلى مناعتنا ضد وهْم تغير السياسات الأميركية بتغير الرؤساء فهماً سليماً للكيفية التي يمكن أن نحدث بها هذا التغيير بأيدينا؟