هذا لا يمكن أن يحدث إلا في أميركا، البلاد العظيمة صاحبة الديمقراطية العظمى، الديمقراطية المرنة والحيوية، نعم لا يحدث هذا إلا في البلد الكبير الذي كان أيضاً صاحب أكبر عار تاريخي في تعامل سكانه البيض الوافدين مع سكانه الهنود الأصليين، ولاحقاً في تعاملهم مع السكان المحملين على السفن من أفريقيا ليباعوا في أسواقه سلعاً بشرية ورقيقاً أسود. لا يمكن أن نتخيل هذا الحدث في أي بلد أوروبي، فليس في فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا مثلاً ديمقراطية تتسع لمثل هذا التغيير العرقي ولا مجتمعات قادرة على رفع مثل هذا التحدي. لابد أن جيلنا الذي تكوّن وعيه على استبعاد مجرد فكرة أن يترشح أفريقي-أميركي للرئاسة، لذلك فإن فوز باراك أوباما يعدّل في عقولنا مثل هذا المعطى لأن الحاجز كسر، هي تجربة حدثت أمامنا من دون أن يعني ذلك أنها تعنينا في شيء. أوباما طرح شعار التغيير وعلّم جمهوره أن يقول "نعم نستطيع التغيير"، وقد استطاعوا فعلاً. يبقى الآن، بعدما راحت السكرة وجاءت الفكرة، أن نعرف ما إذا كان "التغيير" يشير فقط إلى لون بشرة الرئيس، وما إذا كانت هذه الديمقراطية التي أتاحت لأوباما أن يصل إلى سدة المنصب الأرفع في أميركا ستجعله ينسى أنها هي الديمقراطية نفسها، التي ترتكب الولايات المتحدة باسمها وتحت مظلتها أقذع الويلات في حق الشعوب الأخرى. ماذا يعني تجاوز حاجز العنصرية؟ لابد أن يعني أن عدالةً ما انتصرت من خلال هذا الانجاز الذي حققه الخط الرئيسي المشترك للمجتمعات الأميركية. لزمن طويل بدا أن العدالة لم تعد واحدة من القيم التي تحترمها أميركا، أقله في نظر كثير من شعوب العالم ودوله، لعلها بعدما انتعشت وتجسدت في انتخاب أميركي من أصل أفريقي، تعود فتجد مكاناً لها في العقلية التي تصنع القرار وترسم السياسات. وطالما أن أوباما قد أنصفته عدالة بلاده، فهل يحرص الرئيس الجديد على صون العدالة في تعامله مع قضايا العالم؟ لا شيء مؤكداً، فكلام المرشح غير كلامه وفعله بعد الفوز، تماماً كما أن كلام الرئيس غير كلامه عندما يصبح رئيساً سابقاً. هناك روح جديدة استشفها العالم لدى أوباما، روح هي التي صنعت له شعبية واسعة خارج الولايات المتحدة، لابد من مراقبته واختباره، فقد أصبح الآن على المحك. لا شك أن قراره الأول بتعيين إسرائيلي-أميركي، أو أميركي-إسرائيلي، هو رام ايمانويل، جاء بمثابة المكتوب الذي يُقرأ من عنوانه، إذ يعطي فكرة ذات مغزى ليس للعرب فحسب بل للجميع، لأن الإسرائيلي ليس موضع إعجاب أحد عندما يكون مسيطراً على روح القرار الأميركي. قد يثق الأوروبيون ببعض الخبرة الأمنية لدى الإسرائيليين، وقد يحتاجون إلى خدماتهم أحياناً، لكنهم لا يحتاجون إلى أطروحاتهم الاستراتيجية والسياسية، لأنها أثبتت ضيق أفق وقصر نظر واستهزاء بالحقائق والوقائع، مع ذلك يجب أن لا يشكل هذا التعيين سبباً كافياً للبدء بالحكم على رئاسة أوباما، ولابد من الانتظار للتعرف إلى طاقم السياسة الخارجية الذي ستظهر معالمه تباعاً. وفي أي حال لا يمكن لشخص واحد أن يسيطر على كل السياسات حتى لو أمعن في التلاعب بما يصل أو لا يصل إلى الرئيس. والمهم في النهاية، هل لدى هذا الرئيس رؤية أم لا؟ وهل يريد أن يحكم أم أن يترك الآخرين يحكمون بالنيابة عنه؟ لن يطول الوقت حتى نتعرف إلى نهج أوباما لنميّز خيره عن شرّه، فهذا أول رئيس مضطر بحكم الأزمة المالية-الاقتصادية للدخول في صلب العمل، لأن الخطر كبير وداهم. ولعله سيكون محكوماً بالتعاطي مع هذه الأزمة حتى قبل دخوله البيت الأبيض، ولذلك سيكون له شأن مع العالم منذ اليوم الأول، ومن سياسته الحالية سيبدأ العالم بتصنيفه ونعته، فالدول كافة يمكن أن تتقبل ولو على مضض أن تتخذ الولايات المتحدة موقفاً عدائياً في مختلف شؤون السياسة، إلا أنها لا تتقبل بسهولة سياسات يمكن أن تخرب أسس استقرارها الاقتصادي. وهكذا، فبعد التحية والإعجاب بالحدث الديمقراطي العظيم، لابد من ترقب مؤشرات خطواته وتوجهاته الأولى، فربما تحمل "التغيير" الموعود للأميركيين وللعالم.