أخيراً تحقق الحلم الأميركي وتجسد واقعاً ملموساً أمام الناخبين الأميركيين الذين وقفوا في صفوف طويلة أمام مراكز الاقتراع، وشاركوا بكثافة في عملية التصويت لتُسجل نسبة قياسية بلغت 66% سبقتها حملة انتخابية ناجحة وتعبئة جماهيرية غير مسبوقة، أدت في النهاية إلى دخول بارك أوباما إلى البيت الأبيض. فمنذ أكثر من عام والعالم أجمع، وليس فقط الأمة الأميركية، يتابع باهتمام كبير المسلسل الانتخابي الطويل بمنعطفاته العديدة ومنعرجاته الحاسمة الذي انتهى بعد مخاض عسير بانتخاب الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة... هذا الاهتمام العالمي الكبير بالانتخابات الأميركية، يؤشر بوضوح على المكانة التي تحتلها الولايات المتحدة على الساحة الدولية، لا سيما في ظل إدراك شعوب العالم أنها ربما تكون معنية بطريقة، أو بأخرى بنتائج الانتخابات الأميركية. لكن المتابعة الدولية للانتخابات الأميركية، والحرص الكبير على معرفة نتائجها، يعكسان تعطشاً عالمياً لطي صفحة بوش الملطخة بالكوارث والحروب، وفتح أخرى تعد بالتغيير، كما تعهد به أوباما في حملته الانتخابية. والحقيقة أن فوز أوباما قام على رغبة الأميركيين في تغيير حقبة بوش والقطع مع مرحلة تردت فيها مكانة أميركا في العالم، وعانت فيها مشاكل خطيرة كان آخرها الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد. وبهذا المعنى تحول نصر أوباما إلى ما يشبه الرفض الصريح لسياسات إدارة بوش وإدانة مبطنة لنهجه في العلاقات الخارجية، الذي أدخل الولايات المتحدة في حربين يصعب الخروج منهما وليصبح بوش مسؤولاً من حيث لا يدري عن صعود الحزب "الديمقراطي" وسيطرته على مقاليد الأمور في واشنطن بعد اكتساحه لمجلسي الكونجرس ودخول مرشحه المكتب البيضاوي. فقد ساهمت ردة الفعل السلبية تجاه سياساته، والتي عبرت عنها بوضوح معدلات الشعبية المتدنية طيلة السنوات الأخيرة من ولايته الرئاسية في التمهيد لفوز أوباما ومعه حلم الملايين من الأميركيين التواقين إلى كسر حواجز المؤسسة الأميركية التقليدية وتنصيب مرشح من أصول أفريقية رئيساً لأميركا. لكن الفضل في نجاح أوباما لا يعود فقط إلى سياسات بوش الخرقاء الكثيرة والمتعددة، بل يرجع أيضاً وعلى نحو كبير إلى الأزمة الخانقة، التي هزت النظام المالي الأميركي وانداحت آثارها إلى الضفة المقابلة للمحيط الأطلسي لتهدد مجمل الاقتصاد العالمي. ولنتذكر أن النسبة العالية التي حصل عليها أوباما في استطلاعات الرأي وتقدمه الملحوظ على منافسه "الجمهوري" جون ماكين لم تترسخ إلا بعد انهيار "وول ستريت" وانكشاف الاقتصاد الأميركي أمام مخاطر كبيرة، يُضاف إليها الخطأ الجسيم الذي سقط فيه ماكين باختياره "سارة بالين" نائبة له. فهي وإنْ كانت قد نجحت في استقطاب القاعدة المحافظة للحزب "الجمهوري" وحشد دعمهم لصالح حملة ماكين الانتخابية، إلا أنها ومن جهة أخرى، أخافت المعتدلين سواء داخل الحزب، أو في عموم الأميركيين الذين رفضوا التضحية بخطاب التغيير من أجل أجندتها "المحافظ". وبالنظر إلى ثقل التحديات التي تواجه أوباما، وحدة المشاكل التي تنظر أن يعالجها مثل توفير وظائف لعشرة ملايين عاطل أميركي، وتحسين ظروف العمال، فضلاً عن حل مشاكل العجز التجاري الذي بلغ مستويات مهولة، والخروج من الحربين في العراق وأفغانستان اللتين أرهقتا كاهل الأميركيين، فإن مهمة أوباما، تبدو عسيرة وشاقة. ومع ذلك لا يسعنا سوى الاعتراف بالكاريزما التي يتمتع بها أوباما وإسهامها الكبير في ارتفاع شعبيته، بالإضافة إلى حيويته المتدفقة وحماسه المتقد، ناهيك عن بعد نظره في السياسة الخارجية التي ظهرت في معارضته للحرب الأميركية على العراق ما أكسبه المزيد من المصداقية التي افتقدها منافسه جون ماكين بموقفه المساند للحرب. ويبدو أن ظاهرة أوباما شدت إليها أنظار العالم وحولت أميركا من بلد تحوم حوله العديد من الشكوك والتحفظات بسبب ماضيه العنصري وسياساته الاندفاعية، بل والعنيفة أحياناً إلى أمة وفية لصورتها الأولى التي يحب الأميركيون التأكيد عليها باعتبارها منارة للحرية ومكاناً يضمن تكافؤ الفرص. ورغم سعي أوباما على امتداد حملته الانتخابية إلى تخطي العامل العرقي والتقليل من أهميته من خلال تشديده على القيم المشتركة بين جميع الأميركيين، فإنه لا يمكن التعالي على حقائق التاريخ، وهنا علينا أن نتذكر بأنه قبل جيلين فقط لم يكن بإمكان السود الجلوس إلى جانب البيض في مقاعد الباصات. لذا يمثل انتخاب رئيس أميركي أسود بالنظر إلى هذا التاريخ المترع بالعنصرية والتمييز دليلاً آخر على قدرة أميركا على السير قدماً وتجاوز أخطاء الماضي، والأهم هنا بالنسبة للعالم أن هذا التغير لم ينحصر في الوعود البراقة والخطب الحماسية كما في بعض الدول الأخرى، بل تحول إلى حقيقة شاخصة أمام الجميع يصعب التشكيك فيها. كما أن اختلاف أوباما يظهر أيضاً مقارنة مع بوش الذي كان يحتفي بالقيم الأميركية علانية، بينما يمرغها في الأرض أثناء التطبيق على غرار ما أظهرته التجارب في أبوغريب وجوانتانامو. لكن هناك مع ذلك وهمين يتعين تبديدهما، أولهما الانجرار وراء الاعتقاد بأن أوباما قادر على حل جميع المشاكل وكأنه يملك عصا سحرية تعينه على معالجة القضايا الداخلية والخارجية الشائكة، مع التشديد في الوقت نفسه أن ذلك لا يعني أنه لن يفي بوعود التغيير وإلا تحول انتخابه إلى خيبة أمل كبرى. أما الوهم الثاني فهو التعامل مع أوباما وكأنه رئيساً للعالم أجمع والحال أنه رئيس للولايات المتحدة فقط انتخب على أساس أجندة وطنية واضحة سيسعى من خلالها إلى تغليب المصلحة الأميركية على ما سواها، لأن الهدف النهائي هو الحفاظ على التفوق الأميركي على الصعيد العالمي وإعادة التألق لدورها على الساحة الدولية بأسلوب يختلف عن ذلك الذي اعتمده الرئيس بوش، إذ ليس ضرورياً أن تتناقض المصالح الأميركية مع مصالح دول العالم، وليس من الضروري أيضاً أن تحمل القيم الأميركية في طياتها عناصر العداء تجاه الآخر.