ختمنا المقال السابق بالقول إن "الاقتصاد القائم على الغزو"، كان مسؤولًا، في نظر ابن خلدون، عن النمط العام للحضارة العربية الإسلامية، سياسياً واجتماعياً وعمرانياً وثقافياً. وعلينا الآن أن نقدم البيان والتفصيل، دون التعليق. - فمن الناحية السياسية: يرى ابن خلدون أن الدول التي ينشئها أولئك الرحل، الذين سماهم بـ"العرب ومن في معناهم"، تمتاز باتساع الرقعة من جهة، وسرعة الزوال من جهة أخرى. أما اتساع الرقعة فيرجع إلى أنهم "ليس لهم وطن يرتافون منه، ولا بلد يجنحون إليه، فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء. فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد. ولا يقفون عند حدود أفقهم، بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة، ويتغلبون على الأمم النائية". وهكذا، فالعرب عندما، "توجهوا لطلب ما في أيدي الأمم والممالك لم يكن دونهم حمى ولا وزر، فاستبيح حمى فارس والروم، أهل الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم، والترك بالمشرق، والافرنجة والبربر بالمغرب (العربي)، والقوط بالأندلس، وخطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى (جنوب المغرب)، ومن اليمن إلى الترك بأقصى الشمال، واستولوا على الأقاليم السبعة". "وكذا حال الملثمين (المرابطين) من المغرب (موريتانيا) لما نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأول، ومجالاتهم منه في جوار السودان، إلى الإقليم الرابع والخامس، في ممالك الأندلس من غير واسطة". هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الدول التي ينشئها هؤلاء "العرب ومن في معناهم" لا تصمد طويلًا، بل سرعان ما "تهرم" وتزول. ذلك لأن اتساع رقعة دولتهم يحملهم على التوزع في الآفاق البعيدة، فتضعف عصبيتهم الجامعة بطول المسافات الفاصلة بينهم، وتحل محلها العصبيات الخاصة المتنافرة والمتطاحنة. وأيضاً فهم عندما يتوجهون إلى تأسيس الدول يبقى طابع طي المسافات وعدم الاستقرار، غالباً على سلوكهم الحربي، الاقتصادي، مما يجعل أثرهم في المناطق التي يحتلونها ضعيفاً سطحياً سرعان ما يتلاشى ويزول. وإذا كان العرب لأول عهدهم بالإسلام قد استطاعوا الحفاظ على تماسكهم، ومن ثمة على البلاد التي فتحوها، مثلهم في ذلك مثل دولة لمتونة (المرابطين) ودولة الموحدين بالمغرب اللتين تأسستا على أساس دعوة دينية، فما ذلك إلا "لأن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة"، فانصاعت لهم العصبيات الأخرى وانضم بعضها بتأثير "الاجتماع الديني" إلى عصبيتهم. أما عندما "حالت صبغة الدين وفسدت" فإن دولهم لم تكن تصمد طويلاً أمام انتفاضات العصائب، وطمع الدول المجاورة، بل سرعان ما تتمزق وتضمحل. - وأما من الناحية الاجتماعية: فإن طريقة الكسب، لا تسمح لهم بالاندماج الكلي في سكان المناطق التي يحتلونها ويقيمون فيها دولهم: لقد كان العرب "أجانب من الممالك التي استولوا عليها، قبل الإسلام"، ولما تملكوها، بعد الإسلام، "انصرفوا إلى الرئاسة والملك" ولم يندمجوا في أهالي البلاد التي فتحوها، بل بقوا محتفظين بعصبياتهم وتنظيماتهم القبلية. نعم، لقد حاول الإسلام القضاء على العصبية الجاهلية، وشجب بقوة الاعتداد بالأنساب، ولكن الأساس الاقتصادي، اقتصاد الغزو، الذي قامت عليه دولة الإسلام، سرعان ما عمل على إحياء العصبيات العربية القديمة وإذكاء الصراع بينها. لقد أنشأ عمر بن الخطاب ديوان العطاء، واعتمد في توزيع الغنائم والأعطيات على أساس السبق في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعل قبائل معينة تنال امتيازات حُرمت منها أخرى لتأخر إسلامها أو لبعدها عن البيت الهاشمي. وقد كان لسياسة بني أمية التي اعتمدت استرضاء بعض القبائل بالمال أو المصاهرة، وقمع أخرى بالقوة إلى جانب توسيع نظام العطاء القائم على اعتبار التنظيمات القبلية، كان لذلك كله أثر كبير في بقاء القبائل العربية محتفظة بشخصيتها واستقلالها، معتزة بعصبياتها مما ساعد على تعميق تلك الهوة التي تفصل بين العرب وغير العرب من المسلمين، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً. نعم، لقد أخذ هؤلاء "العرب الرؤساء" بمظاهر الحضارة البيزنطية على عهد الأمويين، وبمعطيات من الحضارة الساسانية على عهد العباسيين، ولكن هذه المظاهر بقيت مجرد "مظاهر" فقط ("حضارة" البلاط). فلم تتغلغل فيهم مقومات الحضارتين. لقد نقلوا هذه المظاهر الحضارية إلى قصورهم ومطابخهم وألبستهم، ولكنهم لم ينتقلوا هم أنفسهم إلى هذه الحضارة أو تلك، إنهم لم يندمجوا في صفوف أرستقراطية العجم، ولا اندمجت هذه فيهم، على الرغم من استخدامهم "خبراء" و"فنيين" من غير العرب في المداواة والإدارة والمطابخ، وعلى الرغم من اتخاذهم بنات الفرس والروم جواري أو زوجات... كل ذلك راجع إلى أنهم ظلوا "أهل ملك ورئاسة"، يكسبون من الإمارة التي هي "مذهب غير طبيعي في المعاش" فبقيت وضعيتهم الاجتماعية بالتالي غير طبيعية كذلك. - وأما من الناحية العمرانية: فإن ابن خلدون يعزو إلى "خُلُق البداوة" أو "بداوة العروبية" جميع نقاط الضعف في دولة العرب وحضارتهم: فـ"المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول"، فـ"عمران أفريقيا والمغرب كله أو أكثره بدوي: أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال" هذا في حين أن "عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى وأمصار ورساتيق من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها". ومثل عمران المغرب وأفريقيا عمران عرب المشرق عموماً، فإن المباني التي اختطوها قليلة وما اختطوها منها "يسرع إليها الخراب إلا في الأقل(...) وذلك لقلة مراعاتهم لحسن الاختيار لاختطاط المدن(...) انظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلا مراعي إبلهم، وما يقرب من القفر ومسالك الظعن، فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، لم تكن لها مادة تمد عمرانها(...) فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجاً لها، أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن". - ومن الناحية الثقافية: يقرر ابن خلدون "أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته". وهذه الظاهرة، ليست راجعة إلى نقص في "العقل العربي" ولا إلى تفوق جنس الأعاجم، الجنس الآري، على الجنس العربي السامي، كما ذهب إلى ذلك بعض مفكري الغرب (رينان خاصة)، بل إن السبب الحقيقي والمعقول، هو وضعيتهم الاجتماعية، كما يؤكد ابن خلدون نفسه. يقول: إن كون "حملة العلم في الإسلام من العجم"، راجع إلى "أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة". أما حين دخلت دولة العرب طور الحضارة، فإن الذين أدركوا منهم هذا الطور "شغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية، وما دفعوا إليه من القيام بالملك، عن القيام بالعلم والنظر فيه. فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها، على ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. والرؤساء أبداً يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين". نعم، لقد شجع الخلفاء والملوك العرب، العلم والعلماء، وأقاموا لهم المجال، وأجزلوا لهم العطاء. وإذا كان هذا قد شجع القائمين بالعلم على البحث والترجمة ونقل التراث الثقافي اليوناني والفارسي والهندي إلى اللغة العربية، فإنه من جهة أخرى قد جعل العلم محصوراً في دائرة خاصة، دائرة الارستقراطية الحاكمة. ولما كانت أرستقراطية (مؤقتة) بمعنى أنها ليست وراثية، فإن العلم، والنشاط الثقافي على العموم، كان يهتز باهتزازها: فإذا سقطت (الدولة) وغالباً ما كان يصحب ذلك انتقال العاصمة إلى مكان جديد، تشتت العلماء والأدباء، وتراجع العلم وانحطت الثقافة إلى أن تتمكن الدولة الجديدة من استقطاب (انتليجنسيا) جديدة تلاقي هي الأخرى نفس المصير. وهكذا بقيت الثقافة كغيرها من المظاهر الحضارية الأخرى، تطفو على السطح، تنحط وتزدهر بانحطاط أو ازدهار اقتصاد الغزو.