هناك قدر من الإحباط العربي الأولي والمبرر إزاء قرار أوباما تعيين رام إيمانويل في منصب كبير موظفي البيت الأبيض، باعتبار هذا الأخير من أشد مؤيدي إسرائيل، وتاريخ عائلته أقرب إلى إسرائيل منه إلى الولايات المتحدة. فوالده بنيامين إيمانويل خدم في منظمة "إيتسيل" قبل قيام دولة إسرائيل، وساهم في تشريد الشعب الفلسطيني، ويُقال إنه كان من المشاركين في تنفيذ مذبحة دير ياسين عام 1947. ويتزايد الإحباط أيضاً بسبب العودة المحتملة لدنيس روس الذي شغل منصب المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، وخاصة للعملية السلمية، خلال فترة كلينتون، وعُرف بإنحيازه الشديد لإسرائيل. والذي ختم سنوات خدمته (لإسرائيل!) آنذاك بتحميل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مسؤولية فشل محادثات كامب ديفيد عام 2000 التي ساهم فشلها في قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية. تنغص هذه الإشارات المبكرة و"المأسْرلة" لسياسة وتوجه أوباما الشعور العربي الواسع المتعاطف معه، والذي تكامل مع تعاطف عالمي مدهش، جاء في معظمه على خلفية كراهية السياسة الأميركية التي انتهجها جورج بوش و"المحافظون الجدد". يُضاف إلى ذلك ما وعد به أوباما من تغيير لتلك السياسة وتحويلها من الانفرادية المتبجحة إلى التعددية الدولية. ويمكن هنا افتراض قراءة موغلة في التفاؤل إزاء توجه أوباما المتسرع نحو إسرائيل وإحاطة نفسه بمستشارين هم أقرب إلى مصالح إسرائيل منهم إلى المصالح الأميركية نفسها. إذ يمكن تصور (أو توهم!) أن أوباما يريد وضع جهد استثنائي على جبهة عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين والتوصل إلى معاهدة سلام بين الطرفين، لكنه في الآن ذاته يريد طمأنة إسرائيل بأن ذلك الجهد لا يعني أنه يتبنى سياسة تضر بالمصالح الإسرائيلية. وربما قصد أيضاً من وراء هذه "الأسرلة المبكرة" أن يستبق أي معارضة قد تتشكل ضد سياساته الشرق أوسطية في دوائر اللوبي الصهيوني في واشنطن. لكن علينا أن ندرك أن فلسطين وقضيتها ليست على رأس أولويات الرئيس الجديد وأجندته المثقلة بالقضايا الملحة. أمامه أولاً الأزمة الاقتصادية الهائلة التي تواجه الولايات المتحدة والغرب وما يرافقها من انهيارات متتالية. ثم أمامه سلسلة من الخراب الذي يرثه من الإدارة السابقة سواء محلياً أو دولياً، وعلى رأسها الفوضى التي خلفتها سياسة بوش في العراق وأفغانستان. وهكذا فإنه من روسيا، إلى الصين، إلى أزمات الدرع الصاروخية في أوروبا، وإلحاحات البيئة والتجارة العالمية، وصولاً إلى أميركا اللاتينية وشافيز وكوبا، فإن التنافس على جذب اهتمام الرئيس المنتخب لن يكون سهلًا. وحتى في الشرق الأوسط، وبعد همِّ العراق، فإن ملف إيران وبرامجها النووية يسبق القضية الفلسطينية على أجندة أوباما. يُضاف إلى ذلك كله، وبالنسبة للمسألة الفلسطينية تحديداً، هناك ما يُمكن أن يُسمى "لعنة جمود الدورة الرئاسية الأولى"، حيث يخشى كل رئيس أميركي أن يقترب من ملف الصراع العربي/ الإسرائيلي الملتهب في دورته الرئاسية الأولى. ولأن كل رئيس يكون طامحاً إلى دورة انتخابية ثانية وعينه على المال والصوت اليهودي في الولايات المتحدة فإن الاهتمام الجدي، إن و جد، بهذا الملف يتأخر إلى الدورة الثانية لأي رئيس، بل وإلى الأشهر الأخيرة منها. وهذا رأيناه في سيرة وأداء معظم الرؤساء الأميركيين خاصة في العقد الأخير، سواء في ذلك جورج بوش الأب، وبيل كلنتون، وجورج بوش الابن. ومعنى ذلك أنه إذا انطبقت نفس هذه النظرية على أوباما، وليس هناك ما يفترض عدم انطباقها، فإن أمامنا أربع سنوات من الوقت الضائع، اللهم إلا من المزيد من الدماء والمعاناة على الجانب الفلسطيني. وبعيداً عن عناصر التفاؤل والتشاؤم ليس من المتوقع حدوث اختراقات كبرى على صعيد السياسة الأميركية تجاه المسألة الفلسطينية في الأشهر وربما السنوات القادمة. فالمعادلة متعددة الأطراف، أميركياً، وإسرائيلياً، وعربياً وما زالت هي نفسها تقريباً: انحياز أميركي أعمى لإسرائيل، لوبيهات يهودية قوية في واشنطن، وغياب عربي فاضح عن لعب دور مؤثر وضاغط للتأثير في السياسة الأميركية. ولئن كان هذا الغياب السمة الدائمة، مع الأسف، وليست فيه جدة، فإن الوضع الاقتصادي العالمي الراهن يغري بإعادة التفكير في مسألة معالجة "الغياب العربي" من زاوية جديدة. وهذه الزاوية هي مطلب الولايات المتحدة وأوروبا بأن تتدخل الرساميل العربية لإنقاذ الاقتصاد العالمي من انهياراته الحالية، وما يُمكن أن يُفكر فيه من مقايضة مقابل ذلك. ومن المفروض أولاً ألا تقبل الدول العربية بأي ضغط في هذا الاتجاه "الإنقاذي" من دون أي تكون لها عوائد كبرى ومصالح متحققة. أما أن تلعب هذه الدول دور "المتبرع" فمن المُفترض أن يكون قد ولَّى ذلك الزمن الذي كان يُنظر فيه إليها من ذلك المنظور فحسب. وقد جاء الزمن الذي تستطيع فيه البلدان العربية وبسهولة نسبية أن تفرض مطالب سياسية كبيرة مقابل مساهماتها المالية والاستثمارية في عجلة الاقتصاد العالمي، وخاصة الغربي. وعلينا أن نقول إن المال العربي والاستثمارات العربية تمتاز بصفة تكاد تكون فريدة وهي حياديتها السياسية شبه المطلقة خاصة في سياق العلاقة مع الغرب. ففي عصر تعقد الاقتصاد السياسي الدولي لا يُستغرب من الرأسمال المتنقل أن يفرض شروطه الخاصة وأن يأتي مع مطالب سياسية. وعلى ذلك فإن أية مساهمة عربية واسعة النطاق في إنقاذ الاقتصاد العالمي من الانهيارات التي تسببت فيها السياسة المالية والاستثمارية الغربية يجب أن تأتي بشروط. وعلى رأس هذه الشروط أن تتغير السياسة الغربية، الأميركية والأوروبية، تجاه الشرق الأوسط عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً. وليس هناك فراغ من المطلوب تخليق امتلاء له تتجه إليه تلك السياسة، بل هناك عنوان مهم وواضح اتفقت عليه البلدان العربية وهو المبادرة العربية للسلام. وهذه المبادرة لا تتصف بالثورية أو الراديكالية، بل تبنى على قرارات مجلس الأمن الخاصة بحل النزاع وهي مقبولة من قبل كل الأطراف تقريباً، لكن الدول العربية لم تبذل الجهد المطلوب لتسويقها وفرضها. وفرض أجندة فلسطينية جدية على السياسة الغربية والأميركية من قبل الدول العربية لا يأتي من باب التضامن والأخوة مع الفلسطينيين فحسب، بل هو مصلحة عربية لكل دولة عربية. فكل هذه الدول تدرك أن بقاء الحقوق الفلسطينية منتهكة واستمرار المعاناة الفلسطينية معناه المزيد من التطرف والأصولية في المنطقة، وهما الخطر الأكبر الذي يواجه كل تلك الدول. أما بالنسبة للدورة الرئاسية الثانية لأوباما وتلكؤه المتوقع إزاء التحرك بشكل جدي على المسار الفلسطيني خشية فقدان الدعم المالي اليهودي في الولايات المتحدة فهذا يفترض سياسة أخرى أيضاً. بإمكان المال العربي أن يعوض أي خسارة يمكن أن يواجهها أوباما على هذا الصعيد. ما يهم في انتخاب أي رئيس أميركي ليس الأصوات اليهودية فقط، بل المال والنفوذ اليهودي. الأصوات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة أكبر من تلك اليهودية، لكنها تفتقد المال والنفوذ.