شرعت تايوان منذ عدة سنوات في ما يمكن وصفه بمشروع رائد لتوفير التعليم للجميع من دون اشتراطات مسبقة تتعلق بالسن أو بالمستويين الأكاديمي والوظيفي، وذلك ليس فقط لأن التعليم حق أساسي مقدس للجميع ووسيلة من وسائل الاستنارة والإبداع والتواصل الإنساني مثلما قررت منظمة اليونيسكو، وإنما أيضاً من منطلق أن إزالة العقبات التقليدية وغير التقليدية من أمام الساعين إلى رفع مستوياتهم الأكاديمية أو الباحثين عن مجالات عمل جديدة أو الراغبين في تحديث معلوماتهم في مجالات تخصصهم أمر يعود على البلاد بمنافع عظيمة، وبما يجعل تايوان صنواً للأمم الكبيرة في هذا العصر المتسم بثورة الاتصالات وصناعة المعرفة كمحددين رئيسيين للنجاح والتفوق. وبطبيعة الحال، لا يمكن الزعم بأن مثل هذا المشروع هو من بنات أفكار التايوانيين، بمعنى أنه لم يسبقهم فيها أحد، لكن ما يمكن زعمه هو أن التايوانيين امتلكوا جرأة التقليد دون حساسية، فأخذوا الفكرة من اليابانيين مثلما دأبوا منذ عدة عقود على تقليد معظم المنتجات والابتكارات اليابانية والإضافة عليها ثم تصديرها إلى الأسواق العالمية تحت "ستيكر" ذهبي صغير يحمل عبارة "صُنع في تايوان". وطبقا لصناع القرار في تايبيه، فإن ما حدا بهم إلى تدشين هذا المشروع الذي أطلقوا عليه اسم "التعليم مدى الحياة"، هو أن بعض العوامل المجتمعية أو البيروقراطية قد تحول أحياناً دون التحاق الفرد بالصفوف الدراسية، فتمنعه بالتالي من تحقيق طموحات مشروعة يخفيها بداخله. وهكذا - والحديث لا يزال للمسؤولين التايوانيين- فإن ما أطلقوه يُلبي رغبات قطاعات كبيرة من الرجال والنساء والشباب والعواجيز والمتعلمين وغير المتعلمين والمتزوجين والعزاب، والعاطلين وغير العاطلين، لأنه لا يلزمهم بأوقات دراسة معينة أو صفوف دراسية محددة، ولا يجبرهم على تعلم مواد بعينها، تاركاً لهم مطلق الحرية في اختيار المكان والزمان والمواد التي قد تتفاوت ما بين تعلم اللغات الحية أو وسائل المحافظة على البيئة أو رياضة اليوجا. وللوفاء باحتياجات هذا النوع من المشاريع التعليمية، كان لا بد من إنشاء ما سمي بكليات المجتمع ذات الفروع المنتشرة، والتي افتتح أولاها في عام 1998 وبعدد من الطلاب والطالبات لا يتجاوز الثلاثة آلاف. هذا العدد الذي ارتفع في العام الماضي إلى 210 آلاف طالب وطالبة، على الرغم من أن الكلية الجامعية التي يدرسون بها لا تمنحهم أية شهادات، الأمر الذي يعكس في حد ذاته وجود نهم شديد لدى التايوانيين للمعرفة من أجل المعرفة، مثلهم في ذلك مثل بقية شعوب الشرق الأقصى، التي تحدث معلوماتها في مجالات تخصصاتها من فترة إلى أخرى، كي لا نقول إنها تعود إلى جامعاتها التي تخرجت منها في دورات مدفوعة الثمن من أجل استيعاب كل جديد قد يكون اخترع أو اكتشف بعد تخرجها. ولسنا هنا بحاجة لمقارنة هذا الوضع بوضع الخريج العربي بصفة عامة، والذي يعتقد أن نيله شهادة التخرج هو منتهى المطاف في مجال تخصصه، فلا يفتح بعده كتاباً جديداً أو يتواصل مع كليته أو يجدد معلوماته، ويضيف عليها من خلال البحث في الانترنت (على الأقل) إلا فيما ندر. وتعتبر الجامعة الوطنية المفتوحة في مدينة "لوجهو" الواقعة ضمن مقاطعة تايبيه نموذجاً لنجاح مشروع "التعلم مدى الحياة"، عبر تقديم برامج تعليمية مرنة من ناحيتي المكان والزمان، كما أنها توفر الكورسات المقررة من خلال الراديو والتلفزيون والإنترنت. وربما بسبب هذه الميزات مجتمعة وصل عدد طلبتها في العام الدراسي 2007 – 2008 إلى 16300 طالب وطالبة. الجامعة الأخرى التي يجب التنويه إليها في هذا السياق، هي جامعة "كاوسيونغ" المفتوحة في جنوب تايوان، والتي بلغ عدد طلبتها في العام الدراسي المشار إليه سابقاً نحو 15500 طالب وطالبة، لكنها رغم هذا العدد الهائل من الملتحقين بها، ورغم تفاوت أعمارهم ما بين 25 و64 عاماً، وبالتالي اختلاف مطالبهم وظروفهم، استطاعت أن توفر للجميع فرصاً تعليمية ممتازة وفق أرقى النظم وأحدثها بشهادة اليابانيين. ومع تبني هذه الجامعات المفتوحة لوسائل المعرفة التكنولوجية الحديثة وتوفير وسائطها التي تعتبر تايوان إحدى الدول الرائدة في صناعتها، فإنها بدأت في اجتذاب الشباب وصغار السن إليها بحيث قد يجد الأب أو الأم نفسيهما جالسين إلى جوار ابنهما أو ابنتهما في الصف الدراسي ذاته. هذا على الرغم من أن الهدف الأساسي من تأسيسها كان موجهاً نحو البالغين ممن دخلوا مجال العمل دون امتلاك الخبرة أو الدراسة اللازمتين، ثم أرادوا اكتساب ما يستعينون به على تطوير أعمالهم، أو كان موجهاً نحو أولئك الطامحين إلى امتلاك ثقافة تعينهم على اجتياز امتحانات القبول في المؤسسات الأكاديمية العليا. وليس أدل على صحة هذا الزعم من أن أكثر من 20 بالمئة من طلبة الجامعة الوطنية المفتوحة، التي أشرنا إليها في مقدمة المقال يصفون أنفسهم برجال الأعمال من ذوي الخبرة المحتاجة إلى الصقل بالتعليم الجامعي. ويقول "تشو نان شيان"مدير دائرة علم الاجتماع بوزارة التعليم التايوانية إن من أهم المشاكل التي تواجه بلاده في تطبيق برنامج "التعليم مدى الحياة"، هو الحاجة المستمرة لتقييمه بسبب تغير الظروف في بلد يشهد ارتفاعاً في معدلات الأعمار (عدد الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة يزيدون بمعدل 400 شخص كل عام كنتيجة للرعاية الصحية المتقدمة والضمان الصحي). ويضيف المسؤول التايواني قائلا: "إن عبارة تعليم الكبار أو البالغين أو عبارة التعليم مدى الحياة صارت في السنوات الأخيرة تستخدم للإشارة إلى أشياء مختلفة بحيث صارت مطاطية، لكنها تشترك في قاعدة واحدة هي قانون التربية الاجتماعية الذي وضع في عام 1953 أي بعد أربعة أعوام من سقوط نظام الكومينتانغ وهروب زعيمه الماريشال تشيانغ كاي تشيك إلى جزيرة فورموزا لتأسيس دولة تايوان بدعم من الأميركيين وحلفائهم في الغرب والشرق الأقصى. والمعروف أن سياسات الكومينتانغ التربوية بدأت في البر الصيني في مطلع القرن العشرين، وشملت محو الأمية والتدريب المهني ونشر المعرفة في صفوف الجماهير، وذلك من خلال المؤسسات الرسمية وموظفي الدولة وقادة الرأي والإعلام والأكاديميين. وحينما وصل الكومينتانغ إلى فورموزا نقل معه هذه السياسات، لتشهد الفترة ما بين عقدي الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي ثورة تربوية حقيقية عززتها مشاعر الانتماء القومي وضرورة التميز عن البر الصيني هوية ونظاماً ونهضة، بحيث تقلصت نسبة الأمية سريعاً إلى 4 بالمئة فقط. لكن هذه الثورة استعارت الكثير من صفات الثورة التربوية في اليابان التي كانت قد استعمرت تايوان ما بين 1895 و 1945 وتركت بصمات واضحة على سياساتها التعليمية وأساليب حياتها الثقافية من تلك التي لا تزال ماثلة إلى اليوم ومنعكسة في النظريات والبرامج التعليمية على المستويين المحلي والقومي وتضمين التربية الاجتماعية أشياء مثل المراكز الثقافية والمكتبات العامة والمتاحف الرسمية وقاعات الفنون والعلوم الطبيعية ومراكز الجمباز والباليه ومؤسسات الترفيه عن الأطفال والمراهقين وإرشادهم. وجملة القول إنه بينما يحدث هذا في تايوان، نجد مجتمعاتنا لا تزال منهمكة في أشياء من قبيل ضرب الزوجات أو استحضار خلافات مذهبية حدثت قبل أكثر من ألف عام.