أتْحفَنا خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، بزيارةٍ مفاجئةٍ إلى بيروت، قابل فيها كبار المسؤولين اللبنانيين، وصرَّح بعدها ببعض أهداف زيارته فقال: إنّ السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها ينبغي أن يتمَّ التفاوُضُ حوله بين الفلسطينيين واللبنانيين، وإنه في المبدأ ليس ضدَّ خضوع المخيمات للسلطة اللبنانية بشرْط حصول الفلسطينيين على حقوقهم المدنية. ولهذا التصريح ثلاثة جوانب كلّها سلبية. فالفلسطينيون يتوزعون في لبنان على أربعة عشر مخيماً، وقد خرجت من إشراف الدولة اللبنانية في الحرب الأهلية، وكثُرت فيها وعليها التنافُسات بعد الحرب بين الوصاية السورية، ومحاولات السلطة الفلسطينية للعودة إليها، وبين هذا وذاك ظهور التنظيمات الإسلامية وشراذمها، واتخاذها ملاذاً لكلّ الهاربين من جرائم ارتكبوها على الأرض اللبنانية وخارجها. وما حدث في مخيم نهر البارد قبل عام نموذجٌ لما يمكن أن يحدث في أكثر المخيمات وبخاصةٍ في مخيم عين الحلوة. ففي مخيم نهر البارد جمع السوريون عدة مجموعاتٍ ومئات من الأفراد تحت عناوين "فتح الانتفاضة" والانشقاق عنها، و"فتح الإسلام"، و"القاعدة"... إلخ. وكان الهدف مزيداً من إضعاف الحكومة اللبنانية، بينما كان "حزب الله" وحلفاؤه بعد حرب صيف 2006 يعتصمون بوسط بيروت، ويهدّدون باقتحام السراي الحكومي لإضعاف الحكومة أيضاً أو إسقاطها. أولى سلبيات تصريح خالد مشعل أنه يُعيدُ الأمورَ فيما يتعلق بالمخيمات والسلاح الفلسطيني بداخلها وخارجها إلى نقطة الصفر. فمن المعروف أنّ الحوار الوطنيَّ اللبناني الأول 2005-2006 والذي ضمَّ سائر الفُرقاء السياسيين، اتفق أطرافُهُ على نزع سلاح الفلسطينيين خارج المخيمات خلال ستة أشهُر، يُصارُ بعدها إلى التفاوُض مع الفلسطينيين من خلال السلطة الفلسطينية وممثّليها بلبنان، لتنظيم السلاح وضبطه بداخلها. ومع أنّ القرار لم ينفَّذْ لأنَّ كلَّ السلاح الفلسطيني خارج المخيمات تحت السيطرة السورية، فإنّ تصريح خالد مشعل يعيد الأمورَ إلى الصفر. إذ هو يغطّي من جديدٍ سلاح أحمد جبريل و"فتح الانتفاضة" خارج المخيمَّات، بداعي إعادة التفاوُض حوله. وثاني سلبيات ذاك التصريح أنّ مشعل ينقل مشكلته مع "فتح" والسلطة الفلسطينية إلى لبنان والمخيمات الفلسطينية. وبذلك يزيد المشكلات فيها، ويزيد الشرذمة الحاصلة. وكانت الحكومة اللبنانية قد تجنبتْ هذه المسألة الحسّاسة أثناء الحوار الوطني، وأثناء فتنة نهر البارد، بالتحدث إلى ممثّل المنظَّمة في لبنان( عبّاس زكي)، وإلى ممثِّل حركة "حماس". بل إنها ما رأت حرجاً في البداية في التحدث إلى ممثِّلي التنظيمات المسلَّحة خارج المخيمات (مثل أحمد جبريل) إلى أن بادَرَ أولئك إلى الشتم والقتْل. وكان موقف التنظيمات الداخلة في منظمة التحرير، وممثّل السلطة الفلسطينية، وممثِّل "حماس"، أنّ الدولة اللبنانية هي صاحبة السلطة على أرضها، وأنهم يدعمون إجراءاتها، وأنهم يطالبون بالحقوق المدنية للفلسطينيين المقيمين على أرض لبنان. بيد أنّ تصريح خالد مشعل يعني أنه يعتبر نفسَه قطباً منافساً لمنظمة التحرير والسلطة، وأنه يطالب الحكومة اللبنانية بأن تعترف بتنظيمه، كما اعترفت بتنظيمات منظمة التحرير. ولا شكَّ أنّ ذلك انعكس أو ينعكسُ واقعاً على الأرض، بمعنى أنّ "حماس" صارت جزءًا من الشرذمة الفلسطينية التي لا تنتهي. وبالنسبة للبنان فإنها صارت مشكلةً إضافية. وثالث سلبيات تصريح مشعل وزيارته، أنها تأتي ضمن "المرحلة الانتقالية" لنهاية عهد بوش، ونهاية عهد أولمرت، ووصول رئاسة محمود عباس المتنازَع عليها إلى نهاياتها، وحيرة سوريا بين إيران من جهة، وتركيا وإسرائيل من جهةٍ ثانية، ولقاء سائر التنظيمات الفلسطينية بالقاهرة يوم 10 نوفمبر 2008 في محاولةٍ لإنهاء الانقسام بين "فتح" و"حماس" والاتفاق على المستقبل. والواقع أنّ عدم الحسْم في مسألة السلام، واقتراب نهاية فترة رئاسة عباس، واستمرار "حماس" وسلطتها في غزة؛ كُلُّ ذلك انعكس ضعفاً أو مزيداً من الضعف في مواقع أنصار "فتح" بمخيمات لبنان. ويقال إنّ هناك خلافاً بين عباس زكي ممثل الرئيس عباس بلبنان، وسلطان أبو العينين القائد العسكري لـ"فتح" في المخيمات. كما يقال إنّ التنظيمات الإسلامية المختلفة، مستفيدةً من الخلخلة في قيادة "فتح" السياسية والعسكرية، تميلُ للتمرد والحسْم لصالحها. ولا ندري كم تحظى "حماس" بالدعم في المخيمات، وهي جديدةٌ عليها نسبياً، لكنّ المؤكَّد أنها تستطيعُ إزعاج "فتح" وغيرها إذا استطاعت جمْع بعض الشراذم تحت مظلتها؛ وبخاصةٍ أنها تعملُ بدعم ٍمزدوجٍ من سوريا وإيران (حزب الله). ولذا فإنّ تصريح خالد مشعل، وقبل ذلك زيارته؛ قد يكون استعداداً لمرحلة ما بعد الفشل(؟) في القاهرة، ونهاية عهد عباس، أو على الأقلّ العمل على إزعاج السلطة الفلسطينية والمزيد من إضعافها بإحداث متاعب لها في لبنان. ويمكن القولُ بعد ذلك إنه صراعٌ ضد الصهاينة، والمتصهينين من الفلسطينيين! لقد أطلْتُ في مسألة زيارة مشعل وتصريحه، لأنَّ كلَّ الأنظار تتجه إلى مخيم عين الحلوة وما سيحدث فيه إن تفجرت الخلافاتُ داخل "فتح" أو بين "فتح" وخصومها. والشراذم الإسلاميةُ بالمخيمات لا علاقة لها بـ"حماس" في الأصل، لكنّ "حماس" صارت أقواها الآن. بيد أنّ الاضطراب الناجم عن تلك المرحلة الانتقالية لا يتناول الفلسطينيين في لبنان وغيره وحسب بل يتناولُ أيضاً سوريا. فقد نجح النظام السوري خلال عام 2008 في إحداث نوافذ مع قطر وفرنسا وتركيا وإسرائيل؛ في حين ازدادت علاقاتُهُ سوءاً مع السعودية ومصر، وتجمدت مع إيران. وفي حين توقفت الاتصالات الآن مع إسرائيل، وانخفضتْ مع فرنسا، يبدو أنّ تحسُّناًً يتسلَّلُ للعلاقات مع إيران. وقد ينعكسُ ذلك في عودة التنسيق بينهما على الأرض اللبنانية. وربما جاءت زيارة خالد مشعل ضمن ذلك. وإدارة أوباما ستعتمد للتفاوُضَ مع إيران، كما مع سوريا. لكنْ هل لو أثار السوريون والإيرانيون الاضطراب للضغط على إسرائيل مَثَلاً؛ فإنّ الولايات المتحدة، سوف تُجيبُ بالمُحاسنة والتنازُل؟ ثم ماذا سيكونُ عليه الموقفُ العربي والأميركي من منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، واللتين تتحداهُما "حماس" مدعومةً من إيران وسوريا؟! هناك أمرٌ آخَر هو الموقفُ المصري، واستطراداً الموقف السعودي. فالمصريون يقودون المحاولة الأخيرة للتوفيق بين "حماس" و"فتح". وقد كان التركيز على عدم شرعية كل ما قامت به "حماس"، وضرورة الرجوع عن كل إجراءاتها. لكنْ خلال شهرٍ ونصف تنتهي مدة الرئيس عباس، دونما إمكانيةٍ لإجراء الانتخابات الرئاسية في الضفة والقطاع. فإنْ لم يجر التوافُقُ على ترتيبٍ معيَّنٍ بين الأطراف لإجراء انتخابات رئاسية ونيابية (مجلس النواب لا تنتهي مدته إلا عام 2010)؛ فإنّ حالة اللاشرعية ستشمل الجميع، وستزداد الأوضاعُ سوءًا. و"حماس" تعرف ذلك، ولذا فقد ارتفع صوتُها قبل البدء بالتفاوُض بمطالب شبه مستحيلة، ومن ضمن ذلك تصريحات خالد مشعل ببيروت. لدينا عاملٌ جديدٌ في المأزق العربي المتزايد هو الأزمة المالية العالمية، وإقدام رئيس الدولة الإسرائيلية شيمون بيريز على إعلان الموافقة الإسرائيلية على المبادرة العربية للسلام. السعودية تدعو الآن لحوار حضارات في الأمم المتحدة. وهي مدعوًَّةٌ يوم15/11 إلى وشنطن للمشاركة في حلّ الأزمة المالية العالمية. والمتبادر إلى الذهن أنّ هذه فرصة لمبادلةٍ، لصالح العرب في عالم الاعتماد المتبادَل هذا: الإسهام في معالجة الأزمة المالية، وبالمقابل: العمل الدولي الجادّ للوصول إلى سلامٍ شاملٍ بالمنطقة على أساس القرارات الدولية، والمبادرة العربية للسلام. ويمكنُ أن يُقالَ إنّ الإسرائيليين قد لا يكونون صادقين في مسألة المبادرة العربية. لكنْ من جهة ثانيةٍ فإنّ من مصلحتهم أن تقف السعودية ومصر مع حلٍ للقضية الفلسطينية، وحتّى للسلام مع سوريا. وهكذا فإنّ العقبات لا تبدو من هذه الناحية وحسْب؛ بل من ناحية التشرذم الفلسطيني، والتشرذُم العربي، والاختراق الإيراني. فالفلسطينيون متشرذمون بين "فتح" و"حماس"، ولا ندري كيف سيعودون فيشكلون مرجعيةً مشتركةً ذات صدقية. والعربُ الكبارُ بينهم وبين سوريا عدة مشكلات لا يبدو أُفُقٌ لحلِّها. ثم إنّ الإيرانيين يدخلون هنا وهناك، ودائماً كما يقولون لمصارعة الولايات المتحدة التي لا تتضرر من الهجوم الكلامي الإيراني، بل العربُ هم الذين يتضررون وفي العراق وفلسطين ولبنان وسوريا. إنها شهورٌ خطيرةٌ تصل إلى الستة أَشهُر، بين إدارةٍ أميركيةٍ جديدة تحتاج إلى الاستتباب، وانتخاباتٍ إسرائيلية، وأُخرى إيرانية، وثالثة أو رابعة لبنانية... وهذا إن لم تأت انتخاباتٌ فلسطينية. وبانتظار هذا وذاك وذلك، هناك الخشية من الانفجار في طرف هذا الأنبوب أو ذاك: على قلقٍ كأنّ الريح تحتي تحركُني يميناً أو شمالا