الحدث التاريخيّ، النوعيّ والهائل، الذي تجسّد بوصول باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض، يقول الشيء الكثير بالنسبة إلى الأفكار، ما انتصر منها، في هذه المواجهة، وما انهزم. ولنا، في السياق هذا، أن نشير إلى خمس أفكار منتصرة: فأوّلاً، فازت الثقة بالولايات المتّحدة الأميركيّة كطرف لا يقود العالم بقوّته العسكريّة فحسب، بل يستحقّ أن يقوده بأخلاقيّاته وطاقته المعنويّة. فهذه المواصفات إذا ما خبت، وهي كثيراً ما تخبو، فإنّها سريعاً ما تعود إلى الاستيقاظ. وأهمّ عناصر القوّة المعنويّة تلك قدرة الأميركيّين على مراجعة ذواتهم وأخطائهم ونقدها، ومن ثمّ على تجديد حياتهم والأفكار والسلوكات التي تنبثق هذه الحياة منها. وهنا، ليست ثمّة حدود لما هو متوقّع أو غير متوقع. والفكرة الثانية التي فازت هي الإصلاحيّة التطوّريّة والثقة بها. فما بدأ مع مارتن لوثر كينغ في الستينات تحقّق اليوم. صحيح أن الطريق التي سلكها النضال في سبيل المساواة الفعليّة شهد، بين الفينة والأخرى، تراجعاً هنا وتعثّراً هناك، بيد أن النتيجة التي تحقّقت، في آخر المطاف، هي ما لا يستطيع أيّ عمل عنفيّ أو ثوريّ إتيانه. وثالثاً، تأكّدت فكرة الثقة بالديمقراطيّة البرلمانيّة وأنظمتها الانتخابيّة. فحين جدّ الجدّ، أقبل المواطنون الأميركيّون على الاقتراع بنسب جبّارة. وحينما ظهرت النتائج تصرّف المرشّح "الجمهوريّ" المهزوم بكبر وحسّ رفيع بالمواطنيّة و"الوقوف وراء الرئيس"، الذي تصرّف هو أيضاً كما لو أنه فاز في مباريات رياضيّة ضدّ خصم شريف سيتعاون مستقبلاً معه. هذه الثقة بالديمقراطيّة كانت قد شرعت تهتزّ في السنوات الأخيرة، ليس فقط بسبب اللغط الذي أثارته نتائج المعركة بين جورج دبليو بوش ومنافسه آل غور، بل أساساً بسبب العزوف المتعاظم عن المشاركة في الانتخابات العامّة، أي في السياسة. واتّضحت، رابعاً، صحّة الفكرة التي تقول إن مُواطن المجتمعات الحديثة قد ينجرف وراء الدين، أو وراء الوطنيّة، أو وراء القرابة العائليّة أو الإثنيّة، إلاّ أنه، في اللحظات الحاسمة، إنسان اقتصاديّ يغلّب النفع والمصلحة المباشرين على ما عداهما. هكذا صوّت ستة أعشار الذين صوّتوا انطلاقاً من اعتبارات افتصاديّة يتصدّرها الخوف من الانكماش الذي بدأت تظهر علاماته على الاقتصاد الأميركيّ. وفي المعنى نفسه، لم يحل لون بشرة أوباما، ولا ديانة أبيه المسلم، ولا عصبيّة "الحرب على الإرهاب" والتلويح بها، دون التصويت له كبديل عن النهج الاقتصاديّ المعمول به. وربّما كان أكثر ما استرعى متابعي عمليّات التصويت ذاك الاختراق الواسع الذي حقّقه المرشّح "الديمقراطيّ"، والرئيس الحاليّ، في بعض أهمّ المعاقل التقليديّة لـ"الجمهوريّين". أمّا الحقيقة الخامسة التي انتصرت فتتّصل بالرهان على نجاح الاندماج في المجتمع الأميركيّ الذي كان، ويبقى، مجتمع أقليّات. وإذا صحّ أن القناعة بنجاح كهذا قد اختلّت قليلاً في العهدين البوشيّين، فإن انتخاب أوباما أعادها إلى الصدارة، لا في ما يخصّ الأفارقة الأميركيّين (السود) فحسب، بل أيضاً في ما يعني اللاتين "الهسبانيك" المتزايدي الأعداد، فضلاً عن الأقليّات الوطنيّة والإثنيّة الأخرى، من اليونانيّة إلى الصينيّة، وصولاً إلى الأقليّات الدينيّة والجندريّة على أنواعها. في المقابل، هناك أفكار خمس منيت بالهزيمة من جرّاء الحدث الملحميّ الأخير: فأوّلاً، هُزمت أميركا القديمة والمتخلّفة للجنوب والغرب الأوسط و"حزام الإنجيل"، وهي مهود الانعزال والعنصريّة تقليديّاً، أمام المدن الكبرى والساحليّة المطلّة على العالم الخارجيّ والمستقبلة له. وكان في طليعة القوى المهزومة الأصوليّون المسيحيّون البيض من رافضي المساواة الذين التفّوا في السنوات الثماني المنصرمة حول "المسيحيّ المولود من جديد" جورج بوش. ثانياً، هُزمت، من خلال التصويت الاقتصاديّ تحت وطأة الأزمة الماليّة الحالية، فكرة الفصل الكامل بين السياسة والاقتصاد وما انجرّ عنها من نظريّات حول بطلان كلّ تدخل من الدولة في تسيير الشأن الاقتصاديّ. لقد انهزمت النيوليبراليّة كما أسّسها هايك وميلتون فريدمان أمام الليبراليّة التي أسّسها آدم سميث قبل أن يجدّدها كينز. وفي المحلّ الثالث تندرج هزيمة "المحافظة الجديدة" و"المحافظين الجدد". ذاك ان الفكرة الأهمّ لهؤلاء تقول بأولويّة الصراع سعياً وراء التفوّق الأميركيّ على كلّ اعتبار آخر. وهذه الأولويّة إن لم تترجم نفسها بالحروب، ترجمتها بسياسات صقريّة بالغة التشدّد. لقد صوّت الشعب الأميركيّ، وهو في ذروة "الحرب على الإرهاب"، بموجب أولويّة أخرى لا تعود الصدارة فيها للعنصر الأمنيّ والقوميّ. أمّا رابعاً، واستطراداً، فقد انهزمت الفكرة القائلة بأدلجة السياسة الخارجيّة على حساب براغماتيّتها، على ما سعى إليه "المحافظون الجدد". فإذا صحّ أن السياسات ينبغي أن تكون أخلاقيّة، ما بدا ذلك ممكناً، فمن الصحيح أيضاً أنّها ليست تبشيراً أخلاقيّاً يُستجاب إليه بسبب وغير سبب، بحيث تُسيّر الجيوش لنشر ديمقراطيّة لا يريدها عمليّاً (وإن أرادها كلاميّاً) الشعب الذي يراد له أن يعتمد الديمقراطيّة. وأخيراً، هُزمت الفكرة القائلة إن القائد غير مُطالَب بالضرورة، أن يكون قائداً ما دامت المؤسّسات، في المجتمع الحديث، هي الحاكم الفعليّ. فالتصويت لكاريزميّة باراك أوباما، شكلاً وشباباً وصوتاً جهوريّاً وخطابةً وفصاحةً، هو، في معنى ما، ندم على التصويت مرّتين لجورج بوش الذي لا يملك أيّاً من الصفات الكاريزميّة للقائد. وهذا في واقع الحال لا ينطبق على المرشّح "الجمهوريّ" المهزوم جون ماكين (على رغم أنه لا يساوي أوباما كاريزميّة)، غير أن الرجل دفع تكلفة انتسابه إلى الحزب الذي ينتسب إليه بوش. أمّا بالنسبة إلينا في العالم العربيّ تحديداً، فلسوف نسمع ونقرأ كلاماً كثيراً عن "أوباما والصراع العربيّ/ الإسرائيليّ" و"أوباما وفلسطين" و"أوباما وإيران" و"أوباما والنفط" و"أوباما والمسألة السوريّة- اللبنانيّة". كلّ هذا مهمّ بالتأكيد وتحظى متابعته بأهميّة لا يرقى إليها الشكّ. ومع هذا، يبقى أهمّ المهمّ أن الانتخابات الأميركيّة الأخيرة تقدّم نموذجاً علينا أن نتمعّن فيه جيّداً، مفاده أن نزعة الاندماج الوطنيّ العابرة للإثنيّات والأديان والطوائف والمذاهب والأجناس هي التي تغلب. هذه أمّ الحقائق للذين يريدون أن يبنوا أوطاناً وأن يتقدّموا.