كان العالم كله ينتظر بفارغ الصبر رحيل بوش وإدارته العمياء من البيت الأبيض الذي تحول إلى غرفة عمليات تقاد منها جرائم قتل الشعوب وإرهابها، ويبدو أن التغيير الذي يترقبه العالم ليس فقط تغيير نهج الرئيس بوش الابن، بل تغيير الرؤية السياسية التي خطتها الإدارة الأميركية منذ عهد الرئيس بوش الأب الذي أعلن نهوض نظام جديد فرض منطق القوة العمياء وطمس قوة المنطق. ولئن كنا نذكر لبوش الأب اهتمامه بعملية السلام ودعوته إلى مؤتمر مدريد، فإنه على مبدأ القول الشهير "الأمور بخواتيمها" لم يفعل في النهاية شيئاً أكثر من أنه منح إسرائيل فرصة الاندماج في الوطن العربي الكبير عبر التطبيع المجاني مع دولة مارقة وخارجة على كل الشرائع والقوانين، ووقف الانتفاضة التي أرهقت إسرائيل. وعلى صعيد الاقتصاد العالمي رسخ الرئيس بوش الأب قوة العولمة المنقادة إلى قطب محوري واحد عبر اتفاقيات التجارة المجحفة، وجعل الرأسمالية المنفلتة من أي قيد سيدة العالم، وقد سحقت بقواها المادية الضخمة كل الدول الصغيرة والمتوسطة وجعلتها تابعاً ضعيفاً متعلقاً بذيل عربة الولايات المتحدة حتى باتت أوروبا ذات التاريخ الحضاري العريق حائرة خائرة لا تستطيع اتخاذ قرار خاص بها إن لم يحظ بموافقة البيت الأبيض والثلة التي ترسم سياساته. ولئن كان الرئيس كلينتون قد حاول بعض الشيء عقلنة هذا التوجه الوحشي من لامنطقية السياسة الأميركية عبر محاولاته لإحلال سلام في منطقتنا، فإن القيادة التي تولت إدارة العالم منحت نفسها حق إلغاء الآخر تماماً، وجعلت القوة وحدها معيار الخير، والخروج عن الطاعة العمياء لها معيار الشر، وهذا المنطق المتعجرف المتعالي طمس كل البنى الفكرية التي أسستها البشرية من قبل أرسطو. وقد قرأت تعليقاً طريفاً للمفكر اليهودي الأميركي نعوم تشومسكي يسخر فيه من المنطق الأعوج الذي يؤسس فكر قادة البيت الأبيض من "المحافظين الجدد"، يذكر فيه حديثاً لكوندوليزا رايس تجيب فيه عن سؤال حول ما يمكن أن تقوله لنظيرها الإيراني لو أنها التقت به، قالت إنها ستطلب منه أن يوقف تدفق الأسلحة والمقاتلين الأجانب إلى العراق، ويعلق نعوم ساخراً: "كأن المقاتلين الأميركان ليسوا أجانب في العراق أو في بلد آخر". ويتساءل تشومسكي بطرافة: "لو قامت طهران بغزو كندا والمكسيك وأطاحت بحكومتي هذين البلدين ونشرت أهم ما لديها من القوات والأساطيل وقتلت عشرات الآلاف من الأشخاص وأطلقت تهديدات مجنونة بتدمير الولايات المتحدة إذا لم توقف هذه الأخيرة بشكل فوري ما لديها من برامج نووية، هل سيتعين علينا في هذه الحال أن نراقب الوضع بهدوء؟". ولست في معرض الحديث عن المشكلة الأميركية-الإسرائيلية مع إيران، والتي يفرض المنطق فيها أن تطبق اتفاقية نزع أسلحة الدمار الشامل من الشرق الأوسط كله، وأن يشار بمنطق إلى أن استمرار إسرائيل بامتلاك أكبر قوة تدمير ليس على صعيد المنطقة فحسب بل على صعيد العالم كله هو خروج عن القانون الدولي، واستثناؤها من التوقيع على الاتقافية الدولية بنزع السلاح التدميري يعني خروجاً على كل منطق، فضلاً عن حق الدول باستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، وأنا أشير إلى هذا الخلل في المنطق الدولي السائد لأنه أوشك أن يوصل العالم معه إلى حد الجنون، أليس جنوناً وجريمة كبرى أن تقوم الولايات المتحدة بإنزال عسكري في أرض دولة ذات سيادة، وأن يقتل هؤلاء الجنود المرتزقة عمال بناء ونساء وأطفالاً، ويزعمون أنهم يحاربون متسللين. وما يحز في نفوسنا في سوريا أن نجد كتابات عربية تبرر هذا السلوك الإجرامي الأحمق، وقد استفزني أحدهم وهو يكتب في جريدة رسمية في دولة عربية مهمة ينذر دمشق بضربات قادمة أكثر إيلاماً، ولست في معرض الرد على أحد ممن يكرهون موقف سوريا، فحسبنا موقف الأمة في جلها الأعظم، وقد شاركتنا الأسى والغضب، فأما من عبر عن شماتة أو من بحث عن مبررات للمجرمين فحسبه ما يحصد من ازدراء واستهجان لموقف جبان. ولو أنه تأمل صور الشهداء الذين قضوا لكان أولى به أن يخجل من دمائهم. والمهم أن بوش رحل أو كاد أن يرحل والعالم متفائل بالسيد أوباما، ونرجو أن يتمكن الرئيس الجديد القادم من تحقيق الشعارات التي طرحها، وأولها التغيير في سياسة الولايات المتحدة، فنحن نترقب هذا التغيير لأن هناك من يريد جر العالم إلى حرب عالمية تمهد لها الأزمة المالية التي أعتقد أن وراءها أسراراً خطيرة لم تكشف جدياً، وهي تريد أن تقود العالم إلى مرحلة الركود الاقتصادي ثم إلى الكساد الذي يقود بدوره إلى الانفجار عبر الحروب الكبرى كما حدث قبيل الحرب العالمية الثانية، ولست أبرئ إسرائيل والصهيونية العالمية من السعي إلى جر البشرية إلى مزيد من الحروب، لأنها حين تشعر بالخطر فستأخذ العالم معها، وهي اليوم تستشعر هذا الخطر عند مواجهتها الطريق المسدود. وقد صارح أولمرت الإسرائيليين بحقائق لم يكن يقولها قبل انتهاء ولايته حين أعلن أنه لابد من الانسحاب من الجولان ومن الأراضي العربية المحتلة، وأظن أنه لم يفعل ربما لأنه يخشى أن يلقى مصير رابين، وقد تابعنا في الصحافة حديثاً عن متطرفين إسرائيليين إرهابيين يخططون لاغتيال كل من يدعو إلى السلام في إسرائيل، وتابعنا موقف "الليكود" الذي أعلن أنه غير ملتزم بشيء مما حدث عبر المفاوضات مع حكومة أولمرت، وهؤلاء المتطرفون يدركون أن إسرائيل تواجه الخطر الحقيقي حين تقدم على السلام، فلا مقتل لإسرائيل -كما يرون- سوى أن تندمج في محيط المجتمع الكبير الذي يتحرك حولها، وليس من أجل منع تسلل المقاومين بنت إسرائيل الجدار العازل، بل من أجل أن تبقى في "الجيتو"، وهي تتابع اليوم سياسة تهجير المقدسيين، وقد بنت كنيساً قبالة المسجد الأقصى لتعميق الشعور والتحدي الديني اليهودي الذي بات مجرد حامل إيديولوجي للتعبئة. فالأساطير المؤسسة للفكر الصهيوني لم تعد تقنع أحداً في العالم، والأوروبيون الذين صدق بعضهم في نهايات القرن التاسع عشر أن فلسطين أرض بلا شعب يحاولون اليوم إيجاد حل لمشكلة هذا الشعب الفلسطيني العظيم وقد فوجئوا بأن حضوره أكبر مما كانوا يتصورون، وأعتقد أن أوروبا اليوم مقبلة على تغيير أكبر مما نتوقع أن يحدث في الولايات المتحدة، فهي ستشهد مراجعة كبرى لمواقفها، ولن أتسرع في تفاؤل أو تشاؤم حول اعتلاء أوباما كرسي البيت الأبيض، فأنا أدرك أن الولايات المتحدة لا يقود سياستها الرئيس وحده، وإنما هناك مؤسسات وقوى مركزية ترسم سياسات أميركا وتحدد سلوكها، مع أن بوسع الرئيس أن يضبط الجموح. وجل ما نرجوه هو أن يتمكن الرئيس الجديد من (عقلنة القوة) ومن العودة إلى المنطق الإنساني السليم، والكف عن انتهاك حقوق الإنسان، والاستهتار بالقوانين الدولية، والتوقف عن استخدام العنف وعن إرهاب الدولة المنظم واعتماد الدبلوماسية وحدها حلاً للمشكلات الدولية. ولئن كان أولمرت قد سارع بالقول إن أي رئيس سينجح (ماكين أو أوباما) سيكون صديقاً حميماً لإسرائيل، فإنني أدرك أنه يريد أن يوحي للرئيس الجديد بأنه سيكون صديقاً حميماً رغماً عنه، وإلا فسيجد من اللوبي الصهيوني ما يدخله في فضائح صار هذا اللوبي خبيراً ممتازاً في صناعتها، وقد ذاق مرارتها كل الرؤساء الذين حاولوا التحرر من سلطة الصهيونية المسيطرة على القرار في الولايات المتحدة. وأنا لا أتوقع أن يقف أوباما موقفاً مسانداً للعرب كما كانوا يحلمون يوم ساهموا بقوة في إيصال بوش الابن إلى سدة الحكم، ولا أحد ينسى أن المسلمين عامة والعرب خاصة كانوا في الغالب أنصار بوش وقد ساندوه بقوة حين صار نجاحه مضطرباً، ثم كافأهم بوش بحروب دامية وقتل يومي لأبنائهم، وبوعود كاذبة لم ينفذ منها شيئاً، لا سيما في وعده الرباني (كما وصفه) في إقامة دولتين، والمهم أيضاً أن يبحث العرب عن مصالحهم وليس عن مصالح الولايات المتحدة، ولو أنهم يجربون مرة واحدة أن يتفقوا على قلب رجل واحد لأحدثوا التغيير في العالم بدل أن ينتظروا من يحدثه.