في تدفقه المتواصل يذهب الزمان بملايين الكتب وبلايين الوجوه التي مرت على الدنيا، ومعها كل الصور التي تجلت للعيون في لحظات المسرات والأوجاع، لكن الناس ليس بوسعهم أن ينسوا أو يهملوا صوراً خاطفة، لم يأت اختطافها ولن يأتي على عمقها وأصالتها وديمومتها واختزالها لكلمات لا حد لها. وكثير من الشخصيات البارزة في تاريخ الإنسانية ساهمت الصورة الأخيرة في صناعة مآثرهم، أو أضافت إليهم، أو خففت من غلواء نقدهم وجلدهم، وغفرت لهم بعض أخطائهم وخطاياهم. وربما لو انتهت حياتهم من دون هذه الصورة الفارقة لنقص الكثير من قدرهم ودورهم التاريخي المشهود له، ولما جنوا من حياتهم المديدة سوى اللعنات القاسية. فالصورة الأخيرة للثائر الأرجنتيني تشي جيفارا ساهمت في تخليد ذكراه، لما انطوت عليه من تحد كبير لمن قتلوه، ولما رمت إليه من نظرة إلى البعيد، كأنها تقول إن ما أؤمن به سيظل قائماً والثورة ضد الإمبريالية لن تنقضي بموتي، والثوار باقون ما دام هناك ظلم واستغلال. ولم تدر المخابرات الأميركية أن هذه الصورة، التي سربتها لتلقي الروع في قلوب كل من يؤمن بأفكار جيفارا، ستؤدي إلى نتيجة مغايرة تماماً، وأن صورة عينيه المنبلجتين في موت محقق ستصبح أيقونة لعشرات الملايين في العالم، وستجعل من صاحبها لوحة خالدة على جدران بيوت ومنازل في القارات الست. والصورة الأخيرة لياسر عرفات اختزلت كل فصول حياته المترعة بالمشاق والكفاح. فالرجل ظهر هزيلًا متآكلًا وهو يصعد سلم الطائرة الأردنية التي أقلته إلى عمان ومنها إلى باريس حيث فاضت روحه. كان متعباً إلى أقصى حد، وقبل أن يدلف إلى داخل الطائرة، التفت ولوح لمودعيه بيد مرتعشة، لكن بعينين مملوءتين بالأمل والثفة، وبدت ثيابه وغطاء رأسه الرمادي وكأنهما تعبير عن المرحلة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، إذ رحل عرفات والفلسطينيون في منتصف الطريق، جاءوا من المنافي والشتات وأسسوا سلطة في بعض أراضيهم، ودخلوا في مقاومة مشهودة بلغت ذروتها في انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000، لكنهم لم يتمكنوا بعد من أن يحولوا السواد إلى بياض كامل، بتحرير أرضهم وإعلان دولتهم المستقلة ذات السيادة. وصورة عرفات تلك لم تعبر فقط عن القضية التي كرس حياته من أجلها، بل تجلو أيضا جانباً من هذه الحياة نفسها. فعرفات الذي قررت إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة التخلص منه عاش حياة بسيطة متقشفة، فعلى رغم أنه كان يضع يديه على أموال منظمة التحرير الفلسطينية فإنه لم ينزلق إلى رغد من عيش ينسيه طبيعة دوره ووضعه كرمز لقضية عادلة، فاكتفى بزي واحد، توزع على ثلاث بذلات لا أكثر، ونام في مقره بالمقاطعة في رام الله على سرير بسيط، وكانت طاولة الاجتماعات التي يلتقي عليها رفاقه صغيرة ورخيصة، لا تختلف عن كل المكان الضيق المتواضع الذي كان يعيش فيه. وجاءت الصورة الأخيرة لتؤكد هذا المعنى وذلك المسار الحياتي لعرفات، فغفرت له الكثير من أخطائه، ووضعته، لدى الشعوب العربية والإسلامية وكل الذين يدافعون عن الحقوق العادلة في مشارق الأرض ومغاربها، في مصاف المجاهدين والمناضلين العظام الذين عرفتهم الإنسانية في عمرها المديد. ولو مات صدام حسين من دون مشهد إعدامه الذي تسرب إلى الفضائيات فنقلته للبشرية جمعاء لكان قد خسر الكثير. فصدام الطاغية الذي حكم بلاده بالحديد والنار واستعذب مشاهد الدم في قتل خصومه ومعاركه الخاسرة، وجد من يذرف عليه بعض الدموع، لأنه لم ينحن أمام المشنقة ثم نطق بالشهادتين، وسقط إلى نهايته المحتومة. وحتى الذين احتفظوا بأحكامهم العقلية حيال الرجل، والتي لم تر فيه سوى أنه مستبد ومتوحش وأحمق، تزحزحوا قليلاً بفعل المشهد الأخير، واستثنوه في الحكم على مسار صدام ومسيرته. وبالطبع فليس صدام هو الوحيد الذي ذهب إلى المشنقة ثابتاً، لكنه الأشهر على الإطلاق. فقبله رفض ذو الفقار علي بوتو أن يعتذر للجنرال ضياء الحق الذي انقلب عليه واقتنص منه حكم باكستان، وقال للذين ذهبوا إليه برسالة من الرئيس الجديد يطالبه بالاعتذار مقابل أن يظل على قيد الحياة: "سأحكم باكستان من قبري"، وتحققت نبوءته حين أصبحت ابنته بنازير رئيسة للوزراء. وتكررت التجربة مع متطرف هو شكري مصطفى أمير ما تسمى "جماعة المؤمنين" المعروفة أمنياً وإعلامياً بـ"التكفير والهجرة"، فقد صورت له خيالاته المريضة أنه لن يشنق أبداً، وأن النجاة آتية لا محالة، وأن يد الله ستمتد إليه وتنقذه في اللحظة الأخيرة، ومن ثم مضى إلى مشنقته مغتبطاً، حتى شد الوثاق، وكسر عنقه، ففاضت روحه. ومن دون شك فإن الصورة الأخيرة للمفكر الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيري قد عززت الصورة الذهنية الإيجابية عنه والتي قامت على أكتاف كتبه العديدة وفي مطلعها موسوعته الخالدة "اليهود واليهودية والصهيونية". فالمسيري كمفكر كان محل إعجاب شديد، لكنه آثر في نهاية حياته أن ينزل إلى الشارع، ويهجر غرفة مكتبه التي شهدت ميلاد الأفكار وإعداد الأبحاث المطولة، ليشارك المصريين احتجاجهم على أداء السلطة، ومطالبتهم بالإصلاح. وبنزوله هذا حقق المسيري نظرية "المثقف العضوي" التي وضعها المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي والتي تنتصر للمثقفين الذين لا يكتفون بإنتاج الأفكار بل ينخرطون مع الجماعة في سبيل نقل هذه الأفكار من بطون الكتب إلى رحاب الواقع. وقرار المسيري بالمشاركة في الاحتجاج من خلال قبوله قيادة حركة "كفاية" لمدة عام تقريباً هو الذي أدى إلى ظهور الصورة الأخيرة في حياته، وكانت مؤثرة في نفوس وعقول كثيرين. فقد بدا الرجل الذي هده مرض عضال وهو يكاد يسقط على وجهه، بينما كانت مجموعة من رجال الشرطة ترتدي الزي المدني يدفعونه إلى الأمام، وأنصاره ومحبوه يدفعون أيدي الشرطة عنه، ويحمونه بأيديهم في الوقت نفسه. كان المسيري مقوس الظهر، وبذلته متهدلة، ونظارته متدلية عن مكانها قليلاً، وشعره مهوشاً، وملامحه يكسوها الأسى، لكنه بدا عازماً على التمسك بموقعه داخل المظاهرة المحدودة. وتوالت الصور، التي تم التعبير عنها كلامياً، لكن أحداً لم يرها، ومن بينها خطفه وزوجته وإلقاؤهما في عمق الصحراء، عقب مظاهرة شاركا فيها، لكن الكلام أكد الصورة الأخيرة، التي رافقت خبر وفاة المسيري، وساهمت في انتشاره على نطاق واسع، وفي إطلاق تعقيبات غزيرة عليه، تؤبن الرجل، وتعدد مآثره في الفكر والنضال السياسي معاً. وكانت الصورة الأخيرة للرئيس المصري أنور السادات حافلة بالعبر، حيث ظهر وهو ملقى بين مقاعد "المنصة" الرئيسية والدم يسيل من رأسه، ويلطخ النياشين التي تكلل صدره. فهذه الصورة بقدر ما تبين نهاية غطرسة السلطة فإنها توضح بجلاء غدر الجماعات المتطرفة التي اقترب منها السادات وعزز وجودها. وهناك صورة الديكتاتور الروماني نيقولاي شاوشيسكو وهو ملقى على الأرض بعد إعدامه رمياً بالرصاص، والتي لخصت نهاية كل مستبد ظالم يستعبد شعبه ويستهين به. إن الصورة الأخيرة قد تصنع رجلاً، أو تغفر لآخر خطاياه، وقد تصير أيقونة ورمزاً لكفاح بعض الآدميين وانتصارهم على الشدائد، وإصرارهم على حفر دور بارز في مسيرة الإنسانية المفعمة بالأفراح والأتراح.