في بدايتها لم تكن الولايات المتحدة سوى مجموعة من المستوطنات الصغيرة المتناثرة على طول الساحل الشرقي لأميركا تعيش على الزراعة وما يصلها من مؤن عبر المحيط الأطلسي، قصة الانتقال من المستعمرات الصغيرة إلى دولة كبيرة مترامية الأطراف وتأثيرها المتزايد على الساحة الدولية، فضلاً عن مراحل ارتقائها الممتد، وعلاقاتها الخارجية مع القوى الفاعلة... هي ما يحاول المؤرخ الأميركي جورج هيرين وأستاذ التاريخ بجامعة كينتاكي كشفه في كتابه الذي نعرضه هنا وعنوانه "من مستوطنة إلى قوة عظمى: العلاقات الخارجية الأميركية منذ 1776". كتاب ضخم يقارب عدد صفحاته الألف، وينخرط في مهمة صعبة وشاقة يسعى من خلالها إلى كتابة تاريخ الدبلوماسية الأميركية منذ نشوء الدولة وصولاً إلى حرب بوش على الإرهاب وتحول أميركا إلى قوة أحادية في عالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. والحقيقة أن أهمية الكتاب إنما تكمن في قدرته على جمع الأحداث المتفرقة والشذرات المترامية التي شكلت السياسة الخارجية الأميركية وحددت معالمها على امتداد مسارها الطويل، ثم الخروج بخلاصات ليست في الحقيقة سوى نتيجة منطقية للربط بين قضايا العرض المنظم والمتتابع لأهم قرارات الرؤساء الأميركيين في مجال السياسة الخارجية. ورغم ما يقال من أننا نعيش عصر التخصص والتركيز على قضايا بعينها، فإن الكاتب يخوض تجربة تنطوي على الكثير من المجازفة والصعوبة بتصميمه على عرض 250 سنة من التجربة الأميركية في علاقاتها الخارجية. والملاحظة الأولى التي يبديها المؤلف هي نجاح الولايات المتحدة منذ بداياتها في إقامة التوازن الدقيق بين حماسها الجارف للعب دور تبشيري في العالم يتغيا نشر المسيحية والديمقراطية، وبين ضرورات تحقيق المصالح الأميركية المشروطة قطعاً باعتبارات برغماتية صرفة يصعب تجاوزها بسهولة. لكن أميركا -حسب الكاتب- سقطت ضحية مسيرتها التاريخية الناجحة وقفزاتها النوعية من بلد صغير وبعيد إلى قوة كبرى ذات شأن وثقل على الساحة الدولية، هذا النجاح -يقول المؤرخ- لم يأتِ بدون تكلفة، حيث غرقت أميركا في وهم العظمة وتورطت في سياسات خاطئة، كما يتبدى ذلك في حروب فيتنام والعراق وأفغانستان. لكن مع ذلك تبقى رحلة أميركا في السياسة الخارجية قصة نجاح بامتياز دحضت الكثير من التوقعات المتشائمة مثل تلك التي أبداها أحد الساسة البريطانيين عندما تنبأ بفشل الكونجرس الأميركي في مراحل التشكل الأولى في السيطرة على الأراضي والولايات المترامية غرباً، لتثبت أميركا بعد مرور مائتي عام أنها ليست فقط قادرة على صون وحدتها، بل أيضاً مستعدة للتدخل في أقصى البقاع وأكثرها بعداً عن أراضيها. ومن النقاط الأخرى التي يركز عليها المؤرخ في كتابه بالإضافة إلى ما يعتبره تجربة أميركية ناجحة على الصعيد الدولي، الدعوات الانعزالية التي كانت تبرز بين الحين والآخر وتتخلل التاريخ الأميركي، هذه الدعوات التي لم تتحقق قط على أرض الواقع، رغم كل المقولات التي تذهب عكس ذلك. وفي هذا السياق ينخرط الكاتب في الدفاع عن نظريته التي تنفي وجود نزوع حقيقي نحو الانعزالية في السياسة الخارجية الأميركية، فالولايات المتحدة لم تتقيد أبداً بنصائح سياسييها الداعية إلى الانكفاء على الذات والانسحاب من الساحة الدولية كما ظهر في الخطاب الوداعي للرئيس جورج واشنطن عندما قال: "علينا أن نسعى إلى أقل ما يمكن من العلاقات السياسية مع الخارج". فالكاتب يذكرنا بأن قيام أميركا نفسها ما كان له أن يتجسد واقعاً ملموساً لولا الدعم الفرنسي للثورة الأميركية ضد الحكم البريطاني، وعندما أقدم الرئيس جيفرسون على مضاعفة مساحة الولايات المتحدة بشرائه لولاية لويزيانا من الفرنسيين كان منخرطاً وقتها في تحريك خيوط دقيقة لعملية توازن حاسمة بين فرنسا وبريطانيا وإسبانيا يواجه أحدهما بالأخرى تحقيقاً للمصلحة الأميركية. وحتى مسألة تغيير النظام التي اكتسبت شهرتها خلال فترة الرئيس بوش، يؤكد الكاتب أن جذورها ترجع إلى البدايات وتحديداً إلى الحملة التي شنها الرئيسان جيفرسون وماديسون على ساحل القراصنة في ليبيا وسعيهم إلى الإطاحة بحكومة طرابلس واستبدالها بحاكم منشق أكثر اعتدالاً. وفيما يعتقد البعض أن الحرب الأهلية الأميركية شأن أميركي خاص، ينوه المؤرخ إلى أن نجاح أحد الطرفين في الحرب اعتمد بشكل كبير على القوى الأوروبية في ذلك الوقت، بل وصلت درجة التفاعل مع الخارج، كما يقول الكاتب، أن سخرت إحدى الجرائد الأميركية في بداية القرن التاسع عشر من بريطانيا التي كانت قوة عظمى بأن دعتها إلى الاهتمام بجانبها من البحر وألا تقترب من شواطئ أميركا لأن فيها ما يكفي من بقايا إنجلترا. ويبدو أنه من خلال تأكيد الكاتب على انغماس أميركا في القضايا الدولية واستحالة انسلاخها عما يجري في العالم، يريد التشديد على أن قدر أميركا هو الاستمرار في ذات النهج ومواصلة علاقاتها الخارجية المتشابكة حتى لو أدى ذلك إلى أخطاء مثل حربيها في العراق وأفغانستان، هذه العثرات -يقول الكاتب- عليها ألا تعمي المراقب الموضوعي عن قصة النجاح الحقيقية في المسار الأميركي. فقد خرجت أميركا في كلتا الحربين العالميتين اللتين خاضتهما منتصرة على أعدائها، بل استطاعت أيضاً أن تهزم الاتحاد السوفييتي وأن تتفرد بقيادة العالم، كما أن بروز ظاهرة العولمة لم تترك خياراً لأميركا سوى الاندماج أكثر في المنظومة الدولية والاضطلاع بدورها القيادي. زهير الكساب الكتاب: من مستوطنة إلى قوة عظمى: العلاقات الخارجية الأميركية منذ 1776 المؤلف: جورج هيرين الناشر: منشورات أوكسفورد تاريخ النشر: 2008