الآن وقد أبلج صباح "أوباما" الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية، وهدأت العقول وخرجت من حيرتها، نريد العودة إلى ما قبل العامين الماضيين، وهي المدة التي استغرقت عملية الفوز، لنثبت أن أميركا كانت القبلة السياسية الوحيدة للعالم، حتى وإن حلحلت الأزمة المالية النظام الرأسمالي الذي تمنى له البعض المتسرع أن يتحول تلقائياً إلى الاشتراكية أو شيء قريب منها. فالعودة إلى الأدبيات السابقة للبرهنة على أهمية هذه القبلة السياسية حتى بالنسبة للدول التي تمضي مع أميركا بجانب الحائط أو عكس السير وفي طريق لا يتقاطع ولا يتوازى معها منذ عقود طويلة، إلا أن حالة الترقب والتوجس والقلق كانت تصاحب الدول المضادة لأميركا وخاصة من العيار الذي يتمنى زوالها جملة واحدة حتى تحل حمامة السلام قريباً من دارها، إن لم تكن في عقرها، طبعاً هذه أمانٍ كاذبة بحاجة إلى مشاريع ضخمة لتحقيقها في عالم الواقع فضلاً عن عالم الخيال المريض سياسياً. لم تستطع أي دولة كبيرة أو ميكروسكوبية تجاهل الحراك الانتخابي الأميركي لحظة بلحظة أو حتى ما بين الكحتين والزفرتين أو الشهقتين، مع أن هناك من يسترسل في صف وصب اللعنات تلو الأخرى على هذه الدولة الأحادية القطبية في زمن يتوسع فيه الاتحاد الأوروبي وإن لم يصل بعد إلى مرحلة الولايات الأوروبية المتحدة لإعادة التوازن السياسي إلى كفة الثنائية أو التعددية بدل الأحادية التي يصفها البعض الحانق بالمتوحشة، وهو وصف لا ينتج عملاً إيجابياً وبناء حتى لو تكرر وفق المتوالية العددية. وخلال فترة التنصل من هذه الأحادية الأميركية في عصر الانفراد بالقوة العظمى ذهب البعض إلى الترويج بأن البديل للهروب من أميركا هو الوقوع في عشق الصين أو الهند أو روسيا من جديد، دون أن يقوم البعض بجردة حسابية سياسية تتناسب مع منطق الفهم المصلحي على أقل تقدير. ليست هناك دولة في العالم، عظمى كانت أم صغرى وفق المفهوم النسبي للمصطلح إلا وتمر بأزمات قاسية على الدولة ذاتها وحتى على الفرد العادي الذي لا علاقة له بالسياسة من قريب أو بعيد، وخير مثال على ذلك هو الأزمة المالية العالمية، التي لن يخبو أوارها على المدى المنظور لأنها لامست عظام البعض بعد أن اخترقت الشحم واللحم. والأغرب في عالمنا العربي والإسلامي عندما تقرأ تحليلات لبعض المثقفين الذين لا يمكنهم الاستغناء عن كل ما هو أميركي بالمطلق إلا أن أقلامهم وألسنتهم تشنان حرباً شعواء على هذه الدولة التي كسبت عظمتها بعرق جبينها سواء اختلفنا معها أو اتفقنا، فهذا أمر وارد في السياسة الميكافيلية أو الداروينية. وحتى يثبت هذا النوع من الفكر مصداقيته في دعوة الدول والحكومات لتغيير دفة سياساتها الخارجية نحو كوبا وفنزويلا والأرجنتين والبرازيل، هذا باللاتيني أو بالآسيوي بتغير القبلات السياسية نحو الهند وروسيا والصين أو غيرها من المقترحات الجديدة لتغطية النقص الذي يعاني منه البعض الذي فقد بوصلة التفكير عندما عجز عن طرح البديل الأنسب من داخل الذات، لأن كثرة جلد الذات في العقود السالفة تركت للخدر أثراً عليها بدل زيادة جرعة الوعي بها وانعكاسه على ما يدور حولنا من أحداث أعجز البعض عن حسن التقدير والتحليل في آن واحد. فأميركا ستبقى في المدى المنظور هي القبلة السياسية الحقيقية حتى لدى جبهة الرفض العلني والقبول الخفي لكل ما هو أميركي. فأوباما تخطى عقبة "العنصرية" التي راهن البعض على مفعولها الخفي بإسقاطه في اللحظات الأخيرة من الحملة الانتخابية، وهو في هذا السياق امتداد لما قام به "مانديلا" أسطورة جنوب أفريقيا الذي دحر عنصرية أربعة قرون وخرج من السلطة مختاراً هانئ البال قرير العين بأن الذي قام به يستحق التضحيات الجسام، وهو ما عبر عنه أوباما في خطاب الفوز حين أشار إلى أن قصته فردية ولكن نتائجها تشاركية أميركية الهدف منها تعزيز المواطنة الملونة.