يقول حلاق بغداد في حكايات "ألف ليلة وليلة": "ستجدني أحسن حلاق في بغداد، حكيم مجرب وصيدلي عميق ومنجم لا يخطئ، ضليع في النحو والبلاغة ومؤهل في العلوم الرياضية، في الهندسة والحساب وكل مسائل الجبر، في التاريخ أعرف تاريخ الممالك في العالم، وأعرف أيضاً جميع أبواب الفلسفة...". تشير هذه الحكاية الظريفة في رأي العالم المصري رشدي راشد إلى "أن العلم في عصر النهضة العربية الإسلامية أصبح جزءاً أساسياً من الثقافة العامة، التي لم تكن دينية -لغوية فقط". ويرى راشد، الذي عمل سنوات عدة مديراً لـ"المركز الوطني للبحث العلمي" في فرنسا، أن إحصاء عدد الجامعات وخريجيها ومراكز البحوث العاملة فيها والمهندسين والأطباء، لا يكفي لمعرفة وضع العلم في بلد ما. ولا تشكل مجموعة العلماء، مهما كان عددها، وعدد المؤسسات التي يوجدون فيها، مدينة علمية ولا مجتمعاً علميا، "أي مجتمع واع لنفسه ومتميز من المجتمعات الأخرى". هل هناك وجود للمجتمع العلمي العربي؟.. "لأجل وضع حدٍ للتفكير بذلك ينبغي علينا التفكير على كلا جانبي هذا الحد"، حسب الفيلسوف والعالم النمساوي لودفيغ وتغنستاين. فالجواب عن السؤال لا يزال بعد مرور ست سنوات على "الندوة الأولى للمجتمع العلمي العربي" التي أشرفت على تنظيمها: "لا نعم". كشف عن ذلك "التجمع الخامس لمؤتمرات آفاق البحث العلمي والتطوير التكنولوجي في الوطن العربي" الذي عُقد في الأسبوع الماضي برعاية العاهل المغربي في مدينة فاس. شارك في المؤتمرات، وعددها 16 مؤتمراً متخصصاً، أكثر من ألف عالم وأكاديمي من داخل وخارج العالم العربي، وعقدت خلالها 50 جلسة، و20 ورشة ودورة تدريبية، وعُرضت نحو ألف ورقة وملصق. أشرفت على عقد المؤتمرات "المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا"، وهي هيئة مستقلة غير حكومية أقامها ممثلو المجتمع العلمي العربي عام 2000 في "المدينة الجامعية" بالشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة. وعبرت إدارة هذه المؤتمرات عن أهم ما يميز المجتمعات العلمية، وهي العلاقات الترابطية المباشرة التي تقيمها عبر الحدود والدول. على سبيل المثال أشرف موفق الجاسم، وهو عراقي من الولايات المتحدة، على "مؤتمر مصادر الطاقة والطاقة المتجددة"، وأشرف عيسى بطارسه، وهو فلسطيني من الولايات المتحدة، على "مؤتمر هندسة الكهرباء والنظم"، ومحمد السعيدي من المغرب على "مؤتمر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات"، فيما ترأس اللجنة العلمية للمؤتمرات فخري كرّاي، وهو تونسي من كندا، وترأس المؤتمر عبدالله النجار من الإمارات العربية المتحدة. ويظهر حجم مساهمة المجتمع العلمي العربي في مؤتمر "الطب وعلم الأدوية" الذي عرض أكثر من 200 ورقة وملصق علمي، وأشرفت عليه بديعة اليوسي من المغرب. ومؤتمر "المواد الجديدة والنانوتكنولوجي" الذي عرض أكثر من مائة ورقة وملصق علمي، وأشرف عليه سامي الشال، وهو مصري من الولايات المتحدة. وتربط المجتمعات العلمية بين ممثلي علوم الطبيعة والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية. ظهر ذلك في جمع مؤتمرات فاس بين "مؤتمر علم الرياضيات والفيزياء الرياضية"، و"تاريخ العلوم ونظرية المعرفة"، و"اقتصاديات البحث العلمي". واستهل مؤتمرات فاس "المؤتمر الأول للإعلاميين العلميين العرب"، الذي أعلن فيه عن تأسيس الوكالة العربية للأنباء العلمية، وأشرفت عليه نادية العوضي، وهي طبيبة وإعلامية من مصر. وشهدت فاس "المؤتمر الأول للمجتمع العلمي العربي" الذي أشرفت عليه موزة الربان، وهي باحثة في الفيزياء من قطر. وسجل هذا المؤتمر مبادرة على الصعيد العربي حين عرض قائمة بأسماء علماء العراق الذين اغتيلوا منذ الغزو عام 2003 وبلغ عددهم في الشهر الماضي 377 شهيداً. وظهرت على شاشة المؤتمر صور مؤثرة لعالم الاجتماع عبدالرزاق النعاس، متكئاً بوجهه المضرج بالدماء على عجلة سيارته، وابنة عالم الكيمياء محمد عبد المنعم الإزميرلي، وهي تحمل صورة أبيها، الذي توفي تحت التعذيب في الأسر، وصورة تشييع جنازة علي مهاوش، عميد كلية الهندسة في الجامعة المستنصرية ببغداد. وعلماء العراق يصنعون الأخبار أحياءً وأمواتاً. عددهم في مؤتمرات فاس يعد على أصابع اليد، لكن عدد أوراقهم العلمية أكثر من مائة، بينها 37 ورقة في "مؤتمر المواد الجديدة والنانوتكنولوجي"، وثلاث أوراق لعالمات عراقيات في جلسة "علاج أمراض السرطان والأورام". وتصدّر خبر غياب العراقيين الأنباء، ونشرت تفاصيله صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية بعنوان: "صحافيون وعلماء عراقيون: المغرب رفض منحنا تأشيرات دخول خوفاً من الإرهاب"! هل تشير هذه الاستجابة إلى قيام المجتمع العلمي العربي، الذي يعني "باختصار شديد شبكة من علماء يعيشون ويعملون في مجتمع معين، وتعني الشبكة ضمناً الترابط والتواصل ما بين أعضائها"؟ ورد هذا التعريف في ورقة أنطوان زحلان في المؤتمر وعنوانها "تكوين مجتمع علمي عربي". وذكر زحلان الذي يُعدّ من أبرز المختصين في شؤون العلوم والتكنولوجيا في العالم العربي، أن "إنتاج العلوم هو أهم نشاطات المجتمع العلمي"، والأبحاث هي التي توفر "القوة الرابطة" للمجتمع العلمي. وتصدر في العالم العربي، حسب تقدير زحلان نحو خمسة آلاف نشرة علمية، إلاّ أن اثنتين منها فقط معتمدتان من جانب "المؤسسة الدولية للمعلومات العلمية" ISI. وبلغ عدد أوراق العلماء العرب العاملين داخل العالم العربي والمنشورة في الدوريات العلمية الدولية 15 ألفاً في عام 2007. ويشكل هذا بالنسبة للفرد الواحد 3% مما ينتجه بلد صناعي. لكن لا دور للمجتمع العلمي العربي في عمليات تحكيم الأوراق ومراجعتها وتقييمها ونشرها. وتحتل "الجمعيات العلمية" موقع القلب في المجتمع العلمي، وتقوم بتكوين التوافق المستمر بين المجتمع والحكومة على برامج الأبحاث وأهدافها. وتلعب مجموعات أصغر ضمن المجتمعات العلمية أدواراً مهمة في آليات البحث العلمي. تشكل هذه المجموعات شبكات صغيرة تُدعى "الكليات غير المنظورة" التي تضم باحثين من اختصاصات متماثلة يجتمعون عادة بضع مرات سنوياً. وتشهد اللقاءات الهامشية في أروقة مؤتمرات المجتمعات العلمية أو حول موائد الطعام تبادل الدعوات لزيارة المختبرات، ومتابعة تطورات الأبحاث قبل فترة طويلة من نشرها. وقد تتناول أحاديث على مائدة الفطور أسئلة مصيرية، كالسؤال "ما هو الحل؟" الذي طرحته نجوى عبدالمجيد، أستاذة الطب الوراثي من مصر، وأول عالمة عربية نالت عام 2002 "جائزة اليونسكو لوريال" العالمية المخصصة لنساء العلم. وانبرت للجواب جمانة الترك الباحثة في علوم البيولوجيا الجزيئية في "المركز الوطني للبحث العلمي والتقني" في المغرب. وتوقّعتُ أن تقترح شبكة أخرى في سلسلة الشبكات المطلوبة لجمع شتات المجتمع العلمي العربي، لكن الدكتورة الترك، وهي باحثة لبنانية من أصل فلسطيني، قالت: "الحل هو أن لا نيأس"! ولا يأس من المجتمع العلمي العربي، إذا اتبّعنا نصيحة فيلفريدو باريتو: "أعطني في أي وقت خطأً مثمراً ملؤه البذور، يتفجر بتصحيحاته الذاتية، واحتفظ بحقائقك المعقمة لنفسك". وباريتو فيلسوف اقتصادي إيطالي وضع أول نظرية عن المجتمع كنظام يقوم بتصحيحاته الذاتية بشكل مستقل عن محاولات تغييره بالسيطرة الإدارية.