لطالما اصطدم الأطباء بمرض أو آخر، يضعهم في حيرة من أمرهم، ويسقط في أيديهم، بسبب عجزهم عن تفسيره، وفشلهم في العثور على السبب خلفه. وأحد تلك الأمراض هو متلازمة التليُّف العضلي (Fibromyalgia) الذي يتميز بآلام عامة في مناطق مختلفة من الجسم، خاصة المناطق المحيطة بالعضلات والأوتار، مع شعور مزمن بالإرهاق. ويصيب هذا المرض ما بين 2% إلى 4% من الأشخاص، وخصوصاً النساء، حيث تبلغ معدلاته بينهن، تسعة أضعاف معدلاته بين الرجال. والغريب في هذا المرض، أن جميع التحاليل الطبية والفحوصات المعملية، كانت دائماً ما تعجز عن العثور على أي نوع من الاختلال أو الاضطراب الكيميائي أو البيولوجي بين المصابين به. ولذا كان الأطباء يعتمدون دائماً في تشخيصه، على ما يعرف بالاختزال السلبي. وفي هذه الطريقة، يبحث الطبيب عن جميع الأمراض الأخرى التي يمكن أن تسبب أعراضاً مشابهة، وإذا ما عجز عن العثور على أي منها، يصبح الاحتمال الوحيد هو متلازمة التليف العضلي، وهو ما يعني أن هذه المتلازمة مرض شبح أو خفي (Invisible Syndrome)، يستدل على وجوده من عدم وجود الأمراض الأخرى، إن صح التعبير. وعلى هذه الخلفية، كان عدد لا يستهان به من الأطباء، يؤمنون بأنه مرض وهمي لا وجود له من الأساس، أو بأنه بالأحرى شكل من أشكال التمارض الناتج عن اضطراب الحالة النفسية، أو عن الكذب والخداع أحياناً. ولكن هذا الاعتقاد دحضته بداية الأسبوع الجاري، دراسة صدرت عن أحد أكبر المستشفيات الجامعية بمدينة مرسيليا الفرنسية (Centre Hospitalo-Universitaire de la Timone)، عندما أظهرت أن مرضى متلازمة التليف العضلي، يعانون بالفعل من اضطراب في توزيع الدم داخل المخ. فمن خلال استخدام أحد أحدث أجهزة الأشعة التشخيصية (single photon emission computed tomography)، اتضح للباحثين أن هؤلاء المرضى يعانون من زيادة في معدل تدفق الدم لمناطق المخ المسؤولة عن الشعور بالألم، بينما انخفض معدل تدفق الدم في مناطق المخ المسؤولة عن الاستجابة النفسية للشعور بالألم. وهو ما يعني أن متلازمة التليف العضلي، وما تترافق به من أعراض مثل الألم المزمن والإرهاق الدائم، هي مرض حقيقي وليس وهمياً. وإن كان مصدر الشعور بالألم، ليس العضلات والأربطة الموصلة بها، وإنما مراكز الإحساس بالألم في المخ. وهو ما يفسر عجز الأطباء حتى هذه اللحظة عن تفسير هذا المرض، أو العثور على أية اختلالات في نتائج التحاليل والأشعة، لأنهم ببساطة كانوا يبحثون عن السبب في المكان الخطأ. هذا بالإضافة إلى أن وجود اختلال عضوي محدد، ينفي عن هذا المرض كونه أحد الأمراض النفسية الجسمانية أو النفسجسمانية (psychosomatic disorders). وهذه المجموعة من الأمراض، تنتج عن ظروف نفسية أو ضغوط عقلية، وليس بسبب اضطراب فسيولوجي أو بيولوجي مباشر. أو هي بمعنى آخر، أمراض تنتج جراء اضطرابات نفسية مثل القلق، أو التوتر المزمن، أو الغضب الشديد، أو الاكتئاب المرَضي. وينبغي أن نفرق هنا بين الأمراض النفسية الجسمانية، وبين الأمراض النفسية والعقلية التي تصاحب باضطرابات عضوية كجزء من أعراض المرض، وأيضاً بينها وبين الادعاءات المرضية المبنية على الكذب والتمثيل، والمعروفة بالتمارض. فمنذ زمن ليس ببعيد، كانت بعض الأمراض، مثل الصداع النصفي، والأزمة الشعبية، والحساسية، تصنف خطأ على أنها أمراض نفس جسمانية. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت مجموعة جديدة من الأمراض، مثل منظومة حرب الخليج، أو منظومة الإرهاق المزمن، التي يعتقد البعض أنها تندرج تحت نطاق الأمراض النفس جسمانية. وبالنسبة للمرض الأول، أو منظومة حرب الخليج، هو مجموعة من الشكاوى الطبية التي انتشرت بين أفراد قوات التحالف الذين شاركوا في حرب تحرير الكويت عام 1991. وعلى رغم تعدد هذه الأعراض بشكل كبير، إلا أنها ارتبطت بشكل ما باضطرابات جهاز المناعة. وانتشرت أعراض هذه المنظومة بشكل هائل، إلى درجة أن 30% من السبعمائة ألف جندي أميركي الذين شاركوا في الحرب، قد قاموا بتسجيل أنفسهم كمرضى بمنظومة حرب الخليج. ولكن على رغم هذا العدد الهائل، وحسب الاستنتاج الختامي لمعهد الطب (Institute of Medicine)، وهو أعلى جهة طبية علمية في الولايات المتحدة، لا يمكن تجميع الأعراض المتعددة والمتباينة لتلك الأعداد الهائلة من الجنود ضمن منظومة طبية واحدة، وهو ما يلقي بظلال من الشك على وجودها من الأساس. أما المرض الثاني، أو الإرهاق المزمن، فتتنوع وتتعدد أعراضه بشكل كبير هو الآخر، وإن كان دائماً ما يصاحبه شعور دائم ومستمر بالإرهاق. ومثله مثل الكثير من الأمراض الجديدة على عالم الطب، ينظر بعض الأطباء لـ"منظومة الإرهاق المزمن"، بعيون تملؤها الشكوك. ومثل هذه الريبة كان مفترضاً لها أن تنتهي، مع صدور تقرير في عام 2002 عن كبير الأطباء في إنجلترا، أوضح فيه أن "منظومة الإرهاق المزمن" هي مرض فعلي، يتسبب في إعاقة الكثيرين عن الحياة بشكل طبيعي. هذا بالإضافة إلى قيام منظمة الصحة العالمية، بتصنيف هذه المنظومة المرضية، تحت قائمة الأمراض العصبية، ضمن كتيب التصنيف الدولي للأمراض الذي يصدر عن المنظمة. ولكن بسبب عدم إمكانية تأكيد الإصابة من خلال تحليل معملي محدد أو اختبار بالأشعة، أو غيرها من وسائل التشخيص الطبي، لا يزال مرضى الإرهاق المزمن يقضون أيامهم، ويعيشون معاناتهم، في المنطقة الواقعة بين الأمراض الحقيقية والأمراض الوهمية. د. أكمل عبدالحكيم