لقد ظل انتخاب رئيس أميركي جديد، حدثاً سياسياً مهماً على المستوى العالمي، بسبب النفوذ الدولي الذي يمارسه من يسكن البيت الأبيض، وبسبب تأثيره على حياة ملايين البشر على نطاق العالم بأسره. على أن الانتخابات الحالية تكتسب أهمية خاصة، لكونها صادفت الأزمة المالية الراهنة، التي لم يشهد الاقتصاد الأميركي مثيلاً لها منذ سنوات الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. وإلى جانبها تناثرت في المشهد العالمي نفايات تجاهل إدارة بوش لسيادة القانون الدولي وبقايا حطام نهجها العدواني. وقد وعد المرشح "الديمقراطي" باراك أوباما -الذي يرجح فوزه بهذه الانتخابات- بإصلاح ما دمرته سنوات بوش الثماني وسياساته المعطوبة. أما المرشح "الجمهوري" جون ماكين، فيرجح له أن يسير على نهج بوش، فيما لو حدثت المفاجأة وتمكن من انتزاع الفوز على رغم كل المؤشرات المتوفرة على خسارته. وسيسير ماكين على خطى بوش، بصرف النظر عن تصريحاته الانتخابية الأخيرة، وتكراره لعبارة: إنني لست الرئيس بوش. لقد صرح أوباما أكثر من مرة قائلاً إنه سيستخدم القوة للدفاع عن المصالح الأميركية، وإنه في سبيل ذلك على أتم الاستعداد لاستخدامها خارج إطار الأمم المتحدة فيما لو استدعت الضرورة ذلك. وربما يتحتم على رئيس الدولة العظمى أن يكون مستعداً لاستخدام القوة، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من وسائل السياسة الخارجية، وإلا فسيخاطر المرشح الرئاسي بفقدان أهليته ومن ثم يخرج بالكامل من حلبة السباق الرئاسي، إن لم يعلن عن استعداد كهذا. ولكن مع ذلك فإن المرجح أن تفضل إدارة أوباما -لو فاز- نهج الحوار بدلاً من المواجهة العسكرية، والعمل الدبلوماسي بديلاً للعدوانية. وفي سياق هذا الاحتمال، فإن من المتوقع أن يحث مستشارو الرئيس الجديد على بعث رسالة إلى بقية دول العالم، مفادها أن حرص الولايات المتحدة على الدفاع عن قيمها، هو حرص صادق وحقيقي، وأنه لا يستخدم مجرد ذريعة أو أداة لتبني الخيارات والسياسات الخارجية العدوانية. وربما كانت البداية الأفضل للإدارة الجديدة هي التبرؤ من نهج بوش. والمعروف عن هذا النهج العدواني الذي يسوّق لفرض الهيمنة الأميركية على العالم كله، أنه يقوم على عنصرين مزعزعين: أولهما مفهوم الحرب الاستباقية، وثانيهما احتمال استخدام القوة النووية ضد الأعداء. وعليه فقد وصف بوش في الخطاب الذي ألقاه أمام الكونجرس في يناير من عام 2002 كلاً من كوريا الشمالية والعراق وإيران، بأنها تمثل ما أسماه "محور الشر". وعبّر في الخطاب نفسه عن استعداد بلاده لشن حروب استباقية على الأنظمة التي تحكم الدول المعنية. أما وثيقة "مراجعة الوضع النووي" التي قدمتها وزارة الدفاع للكونجرس بتاريخ 8 يناير 2002، فقد أشارت إلى "حاجة البنتاجون للاستعداد لشن ضربات نووية استباقية ضد كل من الصين وروسيا والعراق وكوريا الشمالية وإيران وليبيا وسوريا"! ووصفت الوثيقة ثلاثة سيناريوهات محتملة لشن ضربة استباقية كهذه: فيما لو وجه العراق ضربة لإسرائيل أو لأي من جيرانه في دول المنطقة، وفيما لو هاجمت كوريا الشمالية جارتها الجنوبية، أو في حال حدوث مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة والصين، فيما يتصل باستقلال تايوان عن بكين. وغني عن التأكيد بالطبع، أن أميركا بحاجة لحماية أمنها ومصالحها، ضد أي تهديدات أو عدوان. إلا أن نهج بوش، أرسى التزاماً مفتوحاً باستخدام القوة، بصرف النظر عن شرعيته أو عن وجود حالة مستمرة من النزاع والتوتر. ثم إن الضربات الاستباقية والاستخدام الاستباقي للأسلحة النووية، لا يشكلان انتهاكاً للقانون الدولي فحسب، وإنما يمثلان استراتيجية في غاية الخطورة لعالم يتطلع إلى قيادة رشيدة، تدعو إلى حل النزاعات وتسويتها بالوسائل السلمية. وإذا ما كان الرئيس الجديد صادقاً وحريصاً على نشر القيم الأميركية، فإنه سيظهر من الجدية ما يرسخ أولوية سيادة القانون، بديلاً لتجاهل هذه السيادة المستمر من قبل إدارة بوش. ولعل البداية المثلى للتعبير عن هذا النهج الجديد، الاعتراف بعدم شرعية الحرب على العراق، وخاصة أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، كان قد شجبها ووصفها باللاشرعية وبأنها تمثل انتهاكاً لميثاق منظمته. وإلى جانب تلك الحرب، أنشأت إدارة بوش شبكة دولية من السجون والنظم العقابية التي يمارس فيها التعذيب وإساءة معاملة السجناء، بعيداً عن الرقابة الدولية. وقد تمت هذه الممارسات في كل من العراق وأفغانستان، إضافة إلى استخدام وسائل التحقيق القاسية، مع الحرمان من حق التقاضي العادل، بحق معتقلي سجن جوانتانامو. بل لقد أسندت هذه الممارسات إلى سجون أخرى تحت برنامج تسليم وتبادل الأسرى الاستثنائي الذي استحدثته الإدارة. وفي حالات كثيرة، ردد المرشح "الديمقراطي" أوباما شجبه لتلك الممارسات، قائلاً إن أميركا أفضل من ذلك كثيراً. في حين بادر منافسه "الجمهوري" جون ماكين إلى شجب التعذيب هو الآخر. وضمن ما يرثه الرئيس الجديد، تنامي مشاعر الكراهية لأميركا في أنحاء واسعة من العالم، جراء سياسات المواجهة العدوانية التي انتهجتها إدارة بوش إزاء كل من العراق وأفغانستان، مروراً بباكستان التي تنفذ فيها واشنطن ضربات عسكرية، ثم تكرار الأمر نفسه في سوريا مؤخراً، وصولاً إلى الحدود الروسية، حيث أنشأت أميركا قواعد عسكرية تابعة لها هناك. واستمراراً في النهج العدواني نفسه، أعلنت واشنطن دعمها للغزو الإثيوبي للصومال -الذي كان على وشك التوصل إلى وحدة وطنية- فجعلت منه بموقفها هذا إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية. أما مواقفها في قطاع غزة، بل وفرض حصار اقتصادي ودبلوماسي عليه، فقد أسهمت الإدارة بنصيب الأسد في الأزمة الإنسانية التي يعيشها القطاع. على أن مجال السياسة الخارجية الوحيد، الذي لا يتوقع حدوث تغيرات كبيرة فيه -بصرف النظر عن الفائز بالمنصب الرئاسي- هو تغير السياسات الخارجية المتبعة إزاء إسرائيل. ولكن على أقل تقدير، فقد وعد أوباما بالتعجيل بالتسوية السلمية للنزاع الإسرائيلي/ الفلسطيني.