قبل ما يزيد على ستة أشهر تلقيت دعوة من معهد الدراسات السياسية في جامعة F.Alexander بمدينة إرلانْفِن في ألمانيا، للمشاركة في "التجمع الأكاديمي البافاري حول الدراسات الشرقية"، الذي يجتمع مرتين كل عام، في الشتاء وفي الصيف. وقد تقدم القائمون على هذه المؤسسة الأكاديمية باقتراح لقي قبولاً عندي، وهو أن أقدم على مدى أربعة أشهر محاضرات حول ثلاثة محاور علمية، هي 1- الفكر العربي الحديث والمعاصر: ضبط المصطلح في تشكله التاريخي، وتناوله فيما نراه أوَّلياً وحاسماً من المشكلات والموضوعات. 2- الأزمة الإشكالية المزمنة، التي تتلبّس الفكر المذكور، بحيث تبدو كأنها متماهية فيه، ومن ثم كأنها تعبير ماهُويِّ عنه، مما يمهد الطريق أمام بعض الباحثين العرب (ناهيك عن باحثين غربيين)، ليستنبطوا فكرة شائعة في الشرق كما في الغرب، هي إن كلاماً عن "نهضة عربية" سابقة أو قادمة محتملة، إنما هو نمط من إيديولوجيا رغبوية حرِنة، تتعاظم حرونتها كلما أصرّ أصحابها على طرحها والشغل عليها، وكذلك كلما برزت صعوبات جديدة أمامها. 3- الأصولية المعاصرة، منظوراً إليها من ثلاثة مداخل، هي تاريخها وبنيتها ووظائفها، مع الإشارة إلى الأصولية الإسلامية بكيفية خاصة. وقد كان اللقاء الأول معقَّداً وإنْ بحرارة دافقة، أما أن هذا اللقاء كان حاراً، فإنما لأمر توضحه إرادة عميقة، عبّرت عنها ثُلّة من الباحثين عبر أمرين اثنين، الحقيقة العلمية، والعمل المشترك والطامح إلى التعمق والتوسع بين منْ تُعقُد الآمال عليهم في الإنتاج المعرفي لصالح شعوبهم وشعوب العالم كله. وأما أنه، أي اللقاء المعني، كان معقداً، فإنما بسبب تعقيد المشكلات والمعضلات، التي يحملها هؤلاء ويسعون إلى إنتاج وعي علمي حولها، وهذه هي -في حقيقة الأمر- مشكلات ومعضلات بقدر ما هي معقدة، فإنها ذات تأثير على مصائر الشعوب، التي ينتمي إليها الباحثون المعنيون، وفوق هذا وذاك، تأتي اللقاءات بين هؤلاء والحوار بينهم في وضعية، عالمية وإقليمية لم تفقد من حساسيتها وخطورتها إلا قليلاً، مع الإحباط الكبير الذي يقع فيه الاحتلال الأميركي للعراق، ولكن بصورة عامة وخاصة مع ظهور المطالع الأولى الكبرى لسقوط "القطب الواحد". في هذا الحضور العالمي الكثيف للمشكلات الدولية والإقليمية، لم يعد ممكناً تناول المحاور الثلاثة المحددة هنا، إلا عبر الأخذ بعين الاعتبار التحولات الجديدة على صعيد البحث العلمي، وخصوصاً في حقل الدراسات التاريخية والسوسيولوجية والدينية. من هنا، كان الوعي بضرورة تقديم المحور الأول (الفكر العربي الحديث والمعاصر) متلازماً مع طرح أسئلة تتصل بضبط مسألة الأزمنة التاريخية ومرحلتها، وقد وضعنا يدنا على ثلاث وجهات نظر في هذا الحقل تُحدث خللاً في بحث ما نحن بصدده. أما الأولى منها فتتمثل في النزعة "المركزية الأوروبية"، التي ترى في أوروبا بداية الموقف (الحضاري)، الذي يحدد كيفيات أو كيفية النظر إلى تواريخ الشعوب، وضمنها التاريخ العربي. وغنيٌ عن الإشارة إلى أن هذه النزعة تجد منذ عقدين تقريباً من الزمن منافساً لها وبديلاً عنها هو النزعة "المركزية العولمية"، التي تتبلور في أفق استراتيجي أميركي أو مؤمرك. أما وجهة النظر الثانية فتفصح عن نفسها في نزعة عريقة تبدو نقيضاً لتلك، وهي النزعة "المركزية الشرقية"، وما ينطلق منها من تخصيصات قومية ودينية وقارية وإثنية، كأن نقول: النزعة "الأفريقية أو العربية أو الهندية أو الجركسية". وتأتي وجهة النظر الثالثة، التي عبّرنا عنها في تلك "المركزية العولمية"، وهي تبدو، كما لاحظنا، بديلاً عن "الأوروبية"، ولكنها أكثر منها، وتمثل حالة نوعية في وضعية عالمية جديدة. من أين ننطلق، والحال كذلك، من هذه أم تلك أم؟ وكيف نضبط الحدود التاريخية والمنطقية للفكر العربي في مرحلتيه، الحديثة والمعاصرة؟ لن يعترينا الاضطراب، إذا ما أشرنا إلى أن وجهات النظر الثلاث المذكورة تمثل عوائق تأسيسية أولية (أبستيمولوجية) في وجه الإجابة عن ذلك السؤال. فهذه جميعاً تعلن ضمناً وإفصاحاً عن أن كلاً منها هي بداية النظر الكوني، وهذا خطل يجد إحدى مرجعياته في رؤية كونية أسطورية حفلت بكثير منها مراحل منصرمة من التاريخ القديم وبعض الوسيط. لن يكون، إذاً، صحيحاً أو قريباً من الصحة أن نرى في "الجزء كلاً"، سواء كان هذا الجزء مهماً وخطيراً في نظر أهله أو لم يكن. ولكننا إذ نعلن هذا الموقف، فإننا لا نملك البديل-الجواب بكيفية مُستسهلة، وإن كان الرأي الأوَّلي محتملاً بأن هذا البديل ليس هو إجماع القول في وجهات النظر المذكورة كلها مجتمعة. ولقد برزت أهمية تلك المناقشة المنهجية التاريخية، حين طرحنا السؤال على الباحثين حول مسألة مرحلة التاريخ العربي الحديث وما بعده، في سبيل تحديد مصطلح "الفكر العربي الحديث والمعاصر". وسوف نلاحظ مزيداً من أوجه المسألة، حين نعمل على ضبط حالات تاريخية معقدة، من مثل حالة "ظهور أو بروز النهضة العربية" في مرحلة تعتبر قريبة من غزو جيوش نابليون بونابرت لمصر.