عقب تعيينه في نهاية أكتوبر المنصرم قائداً للقيادة المركزية الأميركية، تعد المهمة الأكثر تحدياً وإلحاحاً التي يواجهها الجنرال ديفيد بترايوس، هي تطوير استراتيجية ناجعة من شأنها توفير مستوى معقول من الأمن والاستقرار في أفغانستان، حتى وإن تعذر تحقيق النصر الحاسم على مقاتلي "طالبان"، مثلما كانت تأمل واشنطن من شنها للحرب. ولكن تعد هذه المهمة من أصعب المهام التي أوكلت إلى قائد عسكري أميركي في التاريخ الحديث. هذا ويعرف عن القيادة المركزية الأميركية أنها تباشر مهام الإشراف على مسار الحربين العراقية والأفغانية، ضمن مهام تصديها لإدارة علاقات أميركا العسكرية مع مختلف دول العالم وفي شتى قاراته، بما فيها علاقاتها مع باكستان وإيران والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج العربي ومصر وسوريا، إلى جانب العلاقات الناشئة حديثاً مع جمهوريات آسيا الوسطى التابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً. وتقع جميع الدول المذكورة في مناطق النزاعات والقلاقل التي تهز الأمن الدولي كله وتتسبب في أزماته واضطراباته. كما تقع الدول نفسها في العالمين العربي والإسلامي، حيث تزداد حاجة الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى لإعادة بناء سمعتها التي مرغت في الوحل. ويتولى الجنرال بترايوس مهامه الجديدة في القيادة المركزية العسكرية، وهو يصحب معه سمعة طيبة بناها بجهوده التي أثمرت في العراق. فهناك ينسب إليه فضل الحيلولة دون انزلاق البلاد إلى هاوية الفوضى والحرب الأهلية. وعلى الرغم من أن الوضع الأمني هناك لا يزال هشاً ومهزوزاً وقابلاً للانتكاس -مثلما يعترف هو نفسه بهذه الحقيقة- إلا أن معدلات العنف شهدت انخفاضاً كبيراً بفضل الاستراتيجية الأمنية التي طبقها وتولى قيادتها. وقد تمكن بترايوس من إحراز هذا التقدم في الوضع الأمني العراقي، عن طريق اتباع أربع سياسات في وقت واحد. أولاها زيادة عدد الجنود المقاتلين على الأرض، وفقاً لاستراتيجية زيادة عدد القوات التي أقرت في واشنطن. ثانيتها: تبني تكتيك تعبوي مضاد لتنظيم "القاعدة" ومقاتليه في بلاد الرافدين، قوامه نشر عدد كبير من المقاتلين السّنة، وهي الميليشيات التي عرفت باسم "أبناء العراق" التي تكفلت الولايات المتحدة بتنظيمها وتسليحها إلى جانب الإنفاق السخي عليها. أما السياسة الثالثة التي تبناها بترايوس في تحسين الوضع الأمني العراقي، فتمثلت في تعزيز حماية المواطنين من خطر العنف الذي يتعرضون له من قبل الميليشيات السنية والشيعية المتحاربة فيما بينها. وكانت وسيلته في ذلك هي نشر وحدات صغيرة محدودة من القوات الأميركية في الضواحي والقرى عملاً بمبدأ: إن أردت الفوز بالنصر العسكري، فإن عليك كسب عقول وقلوب الأهالي المحليين. ثم نصل إلى السياسة الرابعة والأخيرة التي تبناها بترايوس: يتعذر إحلال السلام في العراق دون العمل من أجل التوصل إلى حل إقليمي شامل. وعليه فلا بد من تشجيع العراق وحثه على تمديد جسور التعاون والتفاهم بينه وجاراته من الدول العربية. ويعرف عن بترايوس أنه مؤلف كتيب "مرشد مكافحة الإرهاب" الذي يستعين به الجيش الأميركي في جهوده ضد الإرهاب. ولهذا السبب فقد أطلق على بترايوس لقب "الجندي المفكر". وهناك من يرى أن الكتيب المذكور، قد تأثر كثيراً بأفكار وآراء الجنرال الفرنسي "ديفيد جالولا" الذي نشر كتابه المعنون "مكافحة الإرهاب... نظرياً وعملياً" خلال عقد ستينيات القرن الماضي. غير أنه ليس أمامنا سوى الانتظار لنرى ما إذا كانت هذه الاستراتيجيات والسياسات التي حقق تطبيقها في العراق نجاحاً مقدراً حتى الآن، سوف تحقق نجاحاً شبيهاً أو مماثلاً في الواقع الأفغاني الصعب المعقد، حيث تواصل حركة طالبان تصعيد عملياتها وهجماتها، وحيث لا وجود لحكومة الرئيس حامد قرضاي أي لا سلطة تذكر على المناطق الأفغانية الواقعة خارج دائرة العاصمة كابول، وحيث يستشري الفساد السياسي الإداري المرتبط بتجارة المخدرات، وحيث يستفيد المتمردون من الملاذات الآمنة التي تتوفر لهم عبر الشريط الحدودي الفاصل بين بلادهم، في منطقة القبائل الواقعة في الجانب الشمالي الغربي من الحدود الباكستانية. ولطالما ردد بترايوس القول إن المال سلاح يجب توظيفه في مكافحة التمرد. وهذا يشير إلى احتمال تشكيله لميليشيا عسكرية عشائرية في أفغانستان، على غرار ما فعل في العراق، كي تقاتل ضد "طالبان" جنباً إلى جنب القوات الأميركية. كما يتوقع نشر عدد إضافي من الجنود الأميركيين، قوامه 8000 جندي في أفغانستان بحلول شهر يناير المقبل. ومن المحتمل أن تلحق بهم قوة إضافية أخرى تقدر بـ15 ألف جندي خلال الأشهر التالية من العام، فيما لو تم خفض القوة الأميركية الحالية في العراق. وإلى جانب ذلك، يعرف عن بترايوس ميله إلى إيجاد حل إقليمي للمشكلة. ويعني هذا حث كل من باكستان وإيران والهند على المساهمة في استقرار الأوضاع في أفغانستان. ومن ناحيتها أعربت المملكة العربية السعودية سلفاً عن استعدادها للتوسط بين أطراف النزاع، حيث سبق لها أن استضافت محادثات ثنائية جرت بين المسؤولين الباكستانيين والأفغان. ومن مؤشرات الأمل في التوصل إلى حل إقليمي لهذا للنزاع، اجتماع "اللويا جيركا" الذي عقد في إسلام إباد يومي السابع والعشرين والثامن والعشرين من أكتوبر المنصرم، حيث اجتمع نحو 50 من زعماء القبائل، إلى جانب مسؤولين حكوميين من كل من أفغانستان وباكستان. وقد شكل الاجتماع لجنة مصغرة أوكلت إليها مهمة البحث عن إمكانية إجراء مفاوضات مع حركة "طالبان". وهنا يكمن التحدي الأكبر الذي تواجهه المهمة القيادية للجنرال بترايوس: ما إذا كان سيحث على التفاوض مع مقاتلي الحركة أم لا؟ ذلك أن بعض "صقور" واشنطن، يفضلون على التفاوض تكثيف الهجمات الصاروخية على ملاذات "طالبان" و "القاعدة" الآمنة في منطقة القبائل الباكستانية. وقد شهدت الثلاثة أشهر الأخيرة، شن حوالي 20 هجمة من هذه الهجمات، أسفرت عن مصرع عدد من المدنيين، وأثارت من مشاعر الغضب والعنف المعادي لأميركا وسط الأهالي المحليين، أكثر مما أصابت من أهدافها العسكرية الاستخبارية التي شنت من أجلها. والأهم من ذلك، التعارض الكبير بين تكتيكات الشدة العسكرية هذه، والسياسات الرامية إلى تحييد بعض عناصر طالبان من تنظيم القاعدة، عن طريق التفاوض معها. وهذه هي السياسات التي يوصي بها ويليام بي. وود، السفير الأميركي في العاصمة الأفغانية كابول. ففي تصريح قريب له لمراسل صحيفة "لوموند" الفرنسية، قال وود: "لطالما أدركت الولايات المتحدة أن النزاع الأفغاني، هو نزاع بين الأشقاء في نهاية المطاف، وأن السبيل إلى وضع حد له هو التفاهم والتصالح بينهم". وعليه فإنه سوف يكون من المثير للاهتمام أن نرى ما إذا كان الجنرال بترايوس سوف يؤكد على أهمية هذا الحل التصالحي التفاوضي للنزاع الأفغاني، ما أن يفرغ من مراجعة الوضع الأمني العسكري هناك، ويحصل على الدعم الذي يلزم مهمته من قبل الإدارة الجديدة في البيت الأبيض. ومن المفترض أن توفر شهور فصل الشتاء الأفغاني القارس، التي عادة ما يتراجع فيها التصعيد العسكري، فرصة مواتية للجنرال بترايوس والرئيس الأميركي المقبل، لبلورة استراتيجية جديدة للتصدي لهذه الحرب الباهظة، التي يتعذر الفوز بها.