لو صحت التقارير الأخيرة التي نقلت عن مصادر موثوق بها أن الإدارة الأميركية بعثت برسالة تهديد إلى الحكومة العراقية تحذرها فيها من مغبة عدم توقيع مسودة الاتفاق الأمني فإن الأمر يحمل دلالات قاطعة بالنسبة لكل من يجد في الحماية الخارجية صوناً لأمنه وحفاظاً عليه. تقول التقارير إن الإدارة الأميركية توعدت الحكومة العراقية بوقف كافة صور التعاون معها إن لم يتم توقيع الاتفاقية. فعلى الصعيد الأمني سيعني عدم التوقيع توقف القوات الأميركية عن المساعدة في "دحر أعداء العراق"، وهو ما يعني بعبارة أخرى وقف عمليات مكافحة الإرهاب و"القاعدة" والجماعات الخاصة وتهديدات أخرى، فضلاً عن عدم المساعدة في عمليات مكافحة التمرد ضد جماعات خارجة على القانون وعناصر النظام السابق، وعمليات ضد الشبكات اللوجيستية والمالية والمعلوماتية للإرهابيين. وكذلك سيعني عدم التوقيع وقف المساعدة الأميركية للقوات العراقية في حماية البلاد جواً وبحراً، بالإضافة إلى إطلاق المعتقلين لدى القوات الأميركية وتجميد التعاون الاستخباري. وعلى الصعيد الاقتصادي لوحت الرسالة بوقف الحماية الأمنية الأميركية لفرق إعادة الإعمار، وإنهاء مشاريع إعمار بقيمة تقترب من خمسة مليارات من الدولارات، وإلغاء مشاريع لإعمار البنية الأساسية بقيمة مائتي مليون دولار إضافة إلى وقف استثمارات ومشاريع أميركية بقيمة 23 مليار دولار، وخسارة العراقيين مائتي ألف وظيفة. وعلى صعيد المؤسسات العراقية تتضمن التهديدات وقف الحماية والدعم الأميركيين للمنظمات الدولية العاملة في العراق، مما يعني عملياً انسحاب بعثة الأمم المتحدة لمساعدة الجيش العراقي، ونهاية مهمة بعثة حلف الأطلسي لتدريب القوات العراقية وهي المهمة التي تخرج سنوياً 6 آلاف شرطي. كذلك سيؤدي توقف الحماية الأمنية إلى وقف المنظمات غير الحكومية نشاطاتها، والتي توفر خدمات أساسية وبرامج للتوظيف، ورفع الحماية الأمنية عن المحاكم والقضاء. وفضلاً عما سبق فمن البديهي أن يؤدي رفع الحماية الأمنية إلى عرقلة التقدم الذي تحقق في الفترة الأخيرة على صعيد العلاقات الدبلوماسية لبغداد مع جاراتها العربيات، ذلك أن الفلتان الأمني المتوقع حال تنفيذ التهديدات الأميركية سيؤثر بالسلب بطبيعة الحال على مهام البعثات الدبلوماسية في بغداد وعلى إمكانية قدوم المزيد منها. تأملت في المعاني الخطيرة لكل ما سبق. لم يبق أمام الإدارة الأميركية سوى أن تلوح بأنها سترسل "أمنا الغولة" لتأكل جميع القيادات العراقية المعارضة للاتفاقية الأمنية وربما أبناء شعب العراق أيضاً. لقد جاءت القوات الأميركية إلى العراق بناءً على طلب ممن يحكمونه الآن كي تكون سندهم الأساسي -إن لم يكن الوحيد- للإطاحة بالنظام السابق، وقد أطيح بذلك النظام بالفعل، ولكن ليشهد العراق سنوات أسوأ بكثير من تلك التي شهدها في حقبة ما قبل الاحتلال، وعندما بدأت تتشكل بوادر بدايات متواضعة لتفاعلات سياسية عراقية ذاتية يمكن لها أن تفضي إلى قواسم مشتركة بين القوى السياسية المتناحرة في العراق، وعندما نما النفوذ الإيراني في العراق على غير الرغبة الأميركية وإن يكن بسبب السياسة الرعناء للإدارة الأميركية، وعندما تقاطعت مصالح القوى العراقية الساعية إلى وضع نهاية للاحتلال مع مصالح إيران التي تريد الاستئثار بالنفوذ الإقليمي في المنطقة، وتبلور هذا كله في طلبات عراقية متواضعة وبديهية لتعديل الاتفاقية الأمنية بما يتلاءم مع أبسط متطلبات السيادة العراقية، ويخرج الحكومة العراقية من بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني إذا بالإدارة الأميركية لا تكتفي بالإعراب عن استيائها من هذه المطالب، وإنما ترسل هذا الوابل من التهديدات. تذكرت في هذا السياق حواراً رصيناً دار بيني وبين أحد الأكاديميين العرب البارزين في منتدى فكري عربي رفيع عقد منذ مدة وجيزة حول آليات حماية الأمن الوطني والإقليمي. كان من رأيه أن هذه الآليات داخلية -وهو ما اتفقت معه مئة في المئة- وخارجية وتعني رهاناً أمنياً على الغرب عامة والولايات المتحدة الأميركية خاصة، وهو ما اختلفت معه بالنسبة نفسها. قدمت أمثلة على ما جرى للعراق وأفغانستان وباكستان في ظل حماية الولايات المتحدة أو التحالف معها. احترم الرجل وجهة نظري، لكنه ثابر على موقفه على أساس أن الظروف مختلفة، وأعتقد أنها واحدة في كل الحالات، فالحماية الكاملة لا يمكن أن تأتي من الخارج، لأن "الخارج" محكوم بمصالحه، وهو في سعيه لتحقيق هذه المصالح وضمانها مستعد لأن يضحي بأي شيء حتى ولو كان أولئك الذين استدعوه لحماية أمنهم، ولقد اعتقدت دائماً وما زلت أن ما خلَّصَ الكويت من الغزو العراقي لم يكن بالأساس هو قوات التحالف الدولي وإنما اللحمة الوطنية الكويتية، فلو كان صدام حسين قد وجد قوة سياسية كويتية واحدة يعتد بها تقبل التعاون معه لانتهى الأمر، لكن ذلك لم يحدث، وبقيت الكويت أولاً وأساساً بفضل صمود أهلها. يبقى أن نعود إلى التهديدات التي أغامر فأصفها بأنها مضحكة، وهي تطبيق مدرسي ساذج لمبادئ الردع التي يتعلمها طلاب السنوات الأولى في الجامعة في تخصص العلاقات الدولية، فأنت تبالغ في تهديدك كي يبدو مؤلماً لخصمك حتى تجبره على الامتناع عن سلوك من شأنه أن يضر بمصالحه، وهكذا تحمى مصالحك دون أن تتكلف شيئاً أكثر من ألفاظ التهديد، وقد تلجأ إلى بعض الأفعال الجزئية غير الرشيدة على طريق تنفيذ هذه التهديدات كي تزيد من صدقية تهديدك، وتقنع خصمك من ثم بأنك جاد فيخضع للتهديد، لكن واقع الأمر أن إمعان النظر قد يفضي أيضاً إلى استنتاج أن الخصم قد يكون غير جاد في تنفيذ تهديده، بل هو حتى خائف من ذلك، ولو لم يكن كذلك لنفذ التهديد دون إنذارات مسبقة ليباغت خصمه على الأقل. والحقيقة أن الخاسر الأكبر من تنفيذ هذه التهديدات لن يكون العراق وحده، وإنما الإدارة الأميركية أيضاً، فالفلتان الأمني إن وقع نتيجة تنفيذ هذه التهديدات سيضر قواتها قبل أي هدف آخر، ووقف عجلة إعادة الإعمار ومشروعات التنمية سيمثل خسارة هائلة للشركات الأميركية التي تكاد تحتكر كعكة العراق، ناهيك عن أننا لا نعرف أصلاً من أين تأتي أموال المشروعات التي تهدد الإدارة الأميركية بوقفها، وأغلب الظن أنها تُستَنزَف من ثروات العراق، وتعويق عملية بناء المؤسسات العراقية، وتقليص شبكة علاقاته الدولية سيدعمان الفلتان الأمني، ومن ثم سيرتدان بالسلب أيضاً على القوات الأميركية التي لا يمكن عملياً أن تختفي من العراق بين عشية وضحاها، وهذا كله فضلاً عن الضرر الذي يمكن أن يلحق بصورة الولايات المتحدة كقوة عظمى -يفترض أنها محملة بمسؤولية أخلاقية- نتيجة هذه التصرفات الصبيانية إن وقعت. على ساسة العراق إن اجتمعوا على رفض الشروط المذلة في الاتفاقية الأمنية إذن أن يثابروا على موقفهم، وليتهم يطورون لاحقاً موقفاً رافضاً للاحتلال العسكري الأميركي أصلاً، فلن تجرؤ الإدارة الأميركية على تنفيذ تهديداتها إن تمسكوا بمواقفهم، وعليهم أن يسعوا قدر الطاقة منذ الآن إلى توطيد الأسس لبناءٍ سياسيٍ عراقي جديد يستند إلى وحدة وطنية حقيقية قادرة على التصدي لأوهام الغطرسة الأميركية.