نمط الإنتاج الذي تقدمه لنا تحليلات ابن خلدون والذي أسميناه بـ"الاقتصاد القائم على الغزو" يختلف اختلافاً كبيراً عن أساليب الإنتاج التي حللها ماركس وغيره من الباحثين الأوروبيين، وتتجلى أبرز مظاهر هذا الاختلاف في الأمور التالية: 1- إن القوى التي يقوم عليها هذا النوع من الاقتصاد ليست قوى اقتصادية خالصة، بل هي على العموم "قوى حربية": الصفات الجسمية والمعنوية التي كانت تجعل من الرجل في القديم، محارباً جيداً. ومن ثم فالعلاقات السائدة في هذا النمط، ليست علاقات إنتاج، بل هي علاقات من نوع خاص، علاقات "عصبية"، تفصل بين الطرفين اللذين تقوم المواجهة بينهما، بقدر ما تشد أفراد كل طرف، بعضهم إلى بعض، ما دامت المواجهة قائمة. أما عندما تنتهي المواجهة، فإن هذه العلاقات تنحل ليحل محلها الحذر والعداء نتيجة ظهور المصالح الخاصة، المصالح الشخصية المتناقضة. 2- إن الثروة التي تتأسس فوقها "البنيات الفوقية" لهذا النمط من الإنتاج -وضمنها "الحضارة الاستهلاكية" التي تحدثنا عنها في المقال السابق- ليست نابعة من عمليات اقتصادية طبيعية، ليست نتيجة صراع مع الطبيعة، ولا نتيجة استثمار أو استغلال لفئة اجتماعية من طرف آخر، بل إنها ثروة ناتجة في الأعم الأغلب، عن الاستيلاء على الخيرات الجاهزة، الطبيعية منها (كالمراعي وإنتاج الحيوانات في حال خشونة البداوة)، والاجتماعية (كالمغارم والجبايات ومصادرة الأعمال والأموال في حال رقة الحضارة). 3- ومن هنا كانت تلك "البنيات الفوقية" على العموم، غير مرتبطة كبير ارتباط بـ"البنيات التحتية". السلطة السياسية ليست نتيجة السيطرة على قوى الإنتاج، بل هي نتيجة التلاحم العصبي الذي يؤطر سعي الجماعات البدوية، المحرومة والمستقلة، ويوجه سعيها نحو السلطة والامتيازات الناتجة عنها، وفي مقدمتها: الثروة الجاهزة: "الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك". هذا النوع من الاقتصاد، اقتصاد الغزو، الذي تتأسس عليه في شكله البسيط "خشونة البداوة" كما تقوم عليه أيضاً، في شكله "المتطور"، كماً، لا كيفاً، رقة "الحضارة"، قد فرضته على أصحابه طبيعة مناطق سكناهم: الطبيعة القاسية التي تبخل بالقليل من الخيرات والرزق، كما نمَّتْه وغذته أيضاً، طبيعة الموقع الجغرافي الذي جعل من تلك المناطق طريقاً للقوافل التجارية التي تمكنهم الرسوم التي يفرضونها عليها، سواء مقابل السماح لها بالمرور، أو مقابل حمايتها، من الحصول على نصيب مهم من الثروة، الجاهزة دوماً. إنه -لا نقول بعبارة ماركس "أسلوب في الإنتاج"- بل نقول بتعبير ابن خلدون إنه "نحلة في المعاش" خاصة بأولئك الذين أطلق عليهم صاحب المقدمة عبارة: "العرب ومَن في معناهم" ويقصد أولئك البدو الرحل الذين تمتد مناطق سكناهم على مساحات شاسعة، قاحلة جدباء، من جنوب المغرب وموريتانيا على الشاطئ الأطلسي غرباً، إلى ما وراء فارس وبلاد الأكراد والأتراك شرقاً وشمالًا: إنها البلاد التي أدخلها الفتح العربي إلى الإسلام، وسنرى كيف يفسر ابن خلدون ذلك. إن هذه المناطق التي يطلق ابن خلدون على أهلها عبارة "العرب ومن في معناهم"، تتميز ببخل سمائها بالأمطار وأراضيها بالعشب والكلأ، مما جعل أهلها يلجأون إلى الغزو للحصول على ما به يحفظون حياتهم، ويسدون خِلتهم. إن الغزو عند هؤلاء لم يكن "ضرباً من اللهو"، وبديلاً عن حياة الفراغ والبطالة، بل كان ضرورة حيوية ألجأتهم إليها قسوة الطبيعة وقلة الخيرات في بيئتهم. إن هذا النوع من "الكسب" الذي تختص به مرحلة "خشونة البداوة"، تبقى معالمه الأساسية قائمة في فترة "رقة الحضارة" وهي الفترة التي تعقب تمكن إحدى القبائل الغازية، بدافع من هذا العامل أو ذاك، من إقامة الملك وتأسيس الدولة. وإذا كان ذلك يبدو واضحاً في الدول التي عاصرها ابن خلدون بأفريقيا الشمالية، فإن الباحث لا يعدم ملامح هذا النوع من الاقتصاد، بل معالمه البارزة أحياناً، في مختلف عصور التاريخ الإسلامي وأنواع الدول التي شهدتها تلك العصور إلى أيام ابن خلدون، بل إلى الأمس القريب. إن التاريخ يؤكد أن ثروة الدولة الإسلامية، الثروة التي أقام عليها العرب دولتهم وحضارتهم كانت تتكون، في معظمها، من موارد حربية. ولعل مما له دلالة خاصة في هذا الصدد، أن كتب الفقه تحصر موارد الدولة، أو مصادر ميزانيتها في الفيء والغنائم، والجزية، والخراج، والعشور... الخ، وهي تعطي أهمية خاصة، لا لاستثمار هذه المواد، فذلك ما ينعدم الاهتمام به، بل تهتم أولاً وأخيراً بكيفية توزيعها. إن الأموال كانت تجمع لتستهلك، لا لتستثمر. إن اقتصاد الغزو ثروة جاهزة تؤخذ لتوزع على المحاربين ورجال الدولة، إنه "اقتصاد دولة"، بمعنى أنه ثروة تتصرف فيها الجماعة الحاكمة. ولما كانت هذه الجماعة بدوية، قبلية، فإنها لم تكن تستطيع بحكم تكوينها، وعاداتها، توجيه هذه الثروة غير وجهة الاقتسام والاستهلاك. وإذا نحن أخذنا هذه الحقيقة بعين الاعتبار جاز لنا أن نسجل مدى التحول الذي تعرفه الآن مواطن أحفاد أولئك الذين أطلق عليهم ابن خلدون اسم "العرب" قاصداً "نحلتهم في المعاش" وليس انتماءهم العرقي ولا خصالهم الخلقية التي رأيناه (في مقال سابق) يمتدحها ويشيد بها، أقول: إذا أخذنا ما تقدم بعين الاعتبار أمكننا أن نسجل التحول السريع الذي عرفته بعض المجتمعات العربية ابتداء من منتصف القرن الماضي. ولإبراز مدى هذا التحول نذكر ما يلي: يروي صاحب كتاب "الطريق إلى مكة" وهو المستشرق الألماني Leopold weiss الذي اعتنق الإسلام وتسمى بـ"محمد أسد"، يروي أنه اقترح -أثناء مقامه بجزيرة العرب في العشرينيات من القرن الماضي (العشرين)- على الملك، استصلاح أراضي وادي بيشة لتكون بعد خمس أو عشر سنوات، ممول مملكته من الحنطة! فأجابه الملك قائلاً: "...خمس سنوات! عشر سنوات! مدة طويلة من الزمن، نحن البدو لا نعرف إلا شيئاً واحداً: إن ما نحصل عليه بأيدينا، نضعه في أفواهنا ونأكله. أما أن نضع الخطط والمشاريع قبل عشر سنوات، فشيء يطول أمده علينا بأكثر مما ينبغي". (محمد أسد، الطريق إلى مكة، بيروت: دار العلم للملايين، 1956، ص 222). تحول سريع وهائل بدون شك، هذا الذي حصل ويحصل في الدول العربية، حيث تشيد ناطحات السحاب وتنشط "البورصة" والشركات الاستثمارية... الخ! لكن يبقى مع ذلك السؤال التالي: هل استطاع هذا التحول، أو هل في إمكانه في المستقبل القريب أن يصبح قادراً على تجاوز التناقض الذي فسر به ابن خلدون "طابع الحضارة العربية": التناقض بين "خشونة البداوة ورقة الحضارة" بكل مظاهرها؟ إننا لا نملك إلا أن نلاحظ أنه في الماضي كانت "خشونة البداوة" تسكن البادية وإلى حد ما الأرياف التي قال عنها ابن خلدون إن أهلها "مغلوبون لأهل الأمصار"، كما بينا في مقال سابق؛ أما اليوم فـ"خشونة البداوة" (وأهلها) تُحاصر المدن الكبيرة ليس في جزيرة العرب فحسب، بل أيضاً وربما بصورة أعمق وأسوأ، في "حواضر" العالم العربي: في العراق والشام ومصر والمغرب العربي! يعزو ابن خلدون استمرار التناقض بين "خشونة البداوة ورقة الحضارة"، استمراراً جعل منه الطابع العام للحضارة العربية في زمانه وقبل زمانه، إلى كون هذه الحضارة ظلت أسلوباً في الحياة خاصاً بالفئة الحاكمة ومن يدور في فلكها: أسلوباً في المعاش تموله وتنفق عليه "الأموال السلطانية". ولما كانت هذه الأموال غير ثابتة ولا مستقرة، ومن ثم غير قابلة للنمو الذاتي، فقد بقيت هذه الحضارة تابعة لقوة "السلطان"، رهينة بالأحداث السياسية. إنها حضارة استهلاك "فوقية"، أقيمت على اقتصاد "رخو"، على ثروة تُجمع وتُكوَّم مثل الرمال: تجمعها الرياح بسهولة، وتذروها العواصف بسهولة أكثر. لنختم بالقول إن الاقتصاد القائم على الغزو، كان مسؤولاً -في نظر ابن خلدون- عن النمط العام للحضارة العربية الإسلامية، سياسياً واجتماعياً وعمرانياً وثقافياً، وفي المقال القادم بيان وتفصيل.