أكتب هذا المقال من العاصمة الأميركية واشنطن التي أزورها بتكليف رسمي من قبل وزارة الإعلام الكويتية لتغطية ومتابعة الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية الأميركية للبرنامج الذي أقوم بتقديمه أسبوعياً في تلفزيون الكويت. ولاشك أن هذه الانتخابات الرئاسية التاريخية الحاسمة، تبقى اليوم هي الحدث الأهم على المستوى الدولي بما تحمله من معانٍ وبما قد تعنيه من صناعة للتاريخ وتقديم لأميركا إلى العالم كياناً ومجتمعاً وطبقة سياسية حاكمة. ولذا تبدو أميركا -والعالم- الآن في حالة من فقدان التوازن، وفي وضع من الانتظار والترقب لما ستسفر عنه الانتخابات من نتائج وتداعيات، وتبقى الأنظار معلقة بانتظار معرفة من سيكون سيد البيت الأبيض الجديد، وما ستكون عليه مواقف الإدارة الجديدة من القضايا الدولية، ويتساوى في هذه الانتظارات المحمومة حلفاء أميركا وخصومها على حد سواء. وعن قرب في أميركا تبدو الأجواء عشية انتخابات الرئاسة مشحونة ومتهيبة لنتيجة صراع محتدم بين تيار سياسي "ديمقراطي" يمثل الشباب ومحدودية الخبرة وتغليب العاطفة على أمل وضع حد لإنهاء حقبة لا ينظر إليها الكثير من الأميركيين بالرضا من جهة، مقابل تيار "جمهوري" يمثل الاستمرارية وعراقة التقاليد ويسعى للتشكيك في قدرات المنافس الشاب لافتقاره إلى الخبرة والتجارب على الساحة الدولية. على أن ثمة اصطفافاً داخلياً آخر، حيث إن الولايات الأميركية -وكذلك الشعب الأميركي- منقسمة باستقطاب واضح بين "ولايات حمراء" منحازة للجمهوريين و"ولايات زرقاء" موالية للديمقراطيين، وهو استقطاب يكرسه كون أميركا نفسها كانت على الدوام وعاء تنصهر فيه الأعراق والأديان في بوتقة منفتحة ومؤمنة بالتعددية والاختلاف. ومن واقع محادثاتنا وحواراتنا مع الأميركيين في نيويوك وواشنطن العاصمة نسمع ونرى الآن مقدار الاندفاع والحماس والإعجاب بماكين، حيناً، وحيناً آخر بمنافسه أوباما وتعليق الآمال العراض على التغيير الذي يعد به، من خلال حماس المعلقين والمتطوعين الذين يستوقفونك ويسألونك عن رأيك في أوباما، وعما إذا ما كنت ستصوت له؟ ترى ذلك في الصور وشعارات حملته التي يعلقونها على ملابسهم. وسخونة حملة المرشح "الديمقراطي" خاصة هنا أمر متوقع، كون نيويورك وواشنطن تعدان معقلين مهمين لـ"الديمقراطيين". وهذا ينطبق على العديد من الولايات الأخرى التي يوسع أوباما تقدمه فيها على حساب المرشح "الجمهوري" ماكين الذي بات يدافع عن بقائه في "الولايات الحمراء" الجمهورية تقليدياً، والتي فاز بها الرئيس بوش بيسر في الانتخابات الماضية. ولعل أكثر ما يعبر عن معاناة ماكين الآن هو أنه بات يواجه مصاعب حتى في ولايته الأصلية أريزونا التي يمثلها في الكونجرس الأميركي منذ ربع قرن، حيث يقلص أوباما الفارق معه هناك إلى 5 نقاط فقط، وبذلك تتحول الولاية من ولاية مضمونة الفوز لماكين إلى ولاية متأرجحة، بعض الشيء. وإذا ما تابعت نشرات الأخبار على شبكات التلفزة الأميركية فستلاحظ أنه لا يكاد ينافس أي برنامج آخر موجة الضخ المستمرة والتغطية اللامنقطعة المصاحبة للحملة الانتخابية بكل تفاصيلها ومنعرجاتها بل وانحدارها لمستويات غير مسبوقة من التقاذف بالوحول. كما تهتم التغطيات برصد أخبار جمع الأموال والإنفاق على الحملات التي لا تنفك تزداد سلبية وتنفيراً وطولًا وتعقيداً حيث باتت استطلاعات الرأي تؤخذ في كل ولاية وكأنها دولة قائمة بذاتها. بل لقد باتت الاستطلاعات تجرى في أجزاء الولاية وليس في الولاية ككل. وشيئاً فشيئاً دخلت الحملة المرحلة الأكثر إثارة وتكلفة ووصل التراشق السلبي بين معسكري كلا المرشحين مرحلة الحسم وكسر العظم. وقد تأكدت من خلال متابعتي لعشرات شبكات التلفزة العالمية الآتية من مختلف دول العالم أن الانتخابات الأميركية لم تعد شأناً أميركياً خاصاً كحال انتخابات الرئاسة في دول العالم الأخرى. ولم تعد شأناً يقتصر فقط على الناخبين الأميركيين. وإذا ما ذهبنا اليوم إلى حرم إحدى الجامعات نرى أيضاً الحماس غير المسبوق لدى الطلاب الذين يبدون اهتماماً ومتابعة لم نكن نراهما في انتخابات الرئاسة السابقة من هذه الشريحة التي تعد في الظروف العادية هي الأقل متابعة واقتراعاً لعدم اهتمامها بالسياسة. وبخصوص التوقعات إذا استمعنا إلى ما تقوله استطلاعات الرأي الأميركية التي تجريها مراكز مثل "بيو" و"غالوب" وغيرهما فإن كفة أوباما تبدو هي الأرجح. وقد تكون هذه هي النتيجة التي يريدها العالم وتلك حقيقة واضحة شاهدنا تجلياتها في التظاهرة الجماهيرية غير المسبوقة الصيف الماضي في برلين عندما زحف 200 ألف من الأوروبيين في احتضان جماهيري عالمي لأوباما. والحلفاء -وكذلك الخصوم- يتابعون بأمل -أو قلق- اليوم الحملة، ولسان حالهم يقول لو كان لنا حق التصويت لصوتنا لهذا المرشح أو ذاك. وبحسب استطلاعات الرأي فإن معظم شعوب العالم تدعم أوباما علناً وبفارق كبير عن منافسه، كما أن معظم قادة العالم يشجعونه بصمت، بينما يأمل البعض فقط ممن يعيشون في أقاليم صعبة وبين جيران طامحين ومشاغبين أن يكون ماكين هو سيد البيت الأبيض الجديد. وهذا ما أكده دبلوماسي عربي في واشنطن كما ورد في تقرير صدر مؤخراً بقوله: "إن أميركا لا تستحق رئيساً كأوباما"! وعلى صعيد مواقف شعوب العالم ربما يتعين هنا أن نشير إلى استطلاع أجرته "البي بي سي" في 22 دولة تشكل 60% من سكان العالم وشمل 22531 مواطناً في تلك الدول، وقد رأى معظمهم أن سياسات الرئيس بوش أثرت سلباً على سمعة أميركا، وأن إدارة ماكين لو فاز ستكون امتداداً واستكمالاً لسياسات بوش. وكان الدعم والتأييد الشعبي في تلك الدول ملفتاً، وبنسبة 4 إلى 1 لمصلحة أوباما. وفي المتوسط فإن 49% أيدوا أوباما دون تحفظ مقابل 12% فقط لماكين، هذا في ما لم يعلن 40% من المستطلعة آراؤهم مواقفهم بشكل حاسم. ولاشك أن أوباما يتمتع بتعاطف وتأييد كبيرين في الدول العربية والإسلامية نظراً لجذوره المسلمة كون والده مسلماً كينياً. ناهيك عن كون انتخاب الأميركيين لرئيس أسود في ظل تنامي موجة الانتقادات لهم سيصالح أميركا مع نفسها ومع أقلياتها وخاصة الأميركيين من أصل أفريقي، وكذلك سيساهم إيجابيا في تحسين صورة بلاد "العم سام" التي تراجعت حول العالم في العقد الماضي. ولكن الحالمين بأن أوباما سيجلب التغيير قد يفاجأون أيضاً بطريقة تعاطيه مع الأزمات، التي قد يبالغ في التعامل معها بشدة ليؤكد جدارته. ولابد من الإشارة هنا إلى أننا قد صدمنا على كل حال من طرف أوباما -وكذلك منافسة ماكين- بسبب مواقفه وتصريحاته حول قضايا مثل الإسلاموفيا والصراع العربي/ الإسرائيلي. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن فوزه لن يشكل فرصة للتغيير جذرياً لما عشناه في السنوات الماضية... وخاصة أن أي تغيير في اعتقاد الكثيرين سيكون للأفضل، لا محالة. ومن هنا وحتى ينجلي غبار الحملة الانتخابية سيبقى العالم متفرجاً ومتأثرًا بما سيقرره الناخب وصناع الرؤساء في أميركا من مؤسسات وشركات ولوبيهات على أمل أن يختاروا الخيار الأقل سوءاً بين خيارين سيئين بالنسبة لباقي العالم المتفرج. وهذا ما سنعرفه غداً بفوز السيد الجديد للبيت الأبيض.