"دول الخليج ستبذل قصارى جهدها للعمل على المساهمة في إنقاذ المجتمع الدولي من الأزمة الاقتصادية... سيقوم خادم الحرمين الشريفين والسعودية بعكس وجهة نظر دول الخليج في الآليات والقواعد التي يجب أخذها بالاعتبار"، هكذا صرّح وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد يوم الجمعة الماضي. إنّ الأزمة المالية العالمية شبحٌ يطلّ بقرونه المرعبة على كافة أصقاع العالم، لا يفرّق بين دولٍ غنيةٍ وأخرى فقيرةٍ، ولا بين دولٍ متديّنةٍ وأخرى غير متديّنةٍ، إنّ هذه الأزمة تعبّر تعبيراً صارخاً أنّ العالم قد أصبح بالفعل قريةً صغيرةً، فهذه الأزمة كما ستؤثر على أميركا ستؤثر على كوريا الشمالية، وكما ستضرّ بالغرب ستضرّ بإيران، ومثلما ستؤذي الصين ستؤذي دول الخليج، وماذاك إلا لأننا في عصر العولمة قد أصبحنا مختلطين متشابكين إلى حدٍ لا نستطيع معه التفريق ورسم الحدود. الزمن لا يتوقّف عن المضيّ قدماً، وإنما الذي يتغيّر هو مستوى تفاعل الأفراد والمجتمعات والدول مع الزمن، خاصةً إذا أخذنا في الاعتبار قوّة المؤثرات الناشطة في هذا التفاعل، والتي منها المؤثرات الحضارية ومستوى الوعي وتميّز التعليم، ومساحة الأسئلة التي يطرحها التغيير على الجميع، واختلافات الاستجابة لهذه الأسئلة ومدى ملامستها للواقع اليومي والطموح الفردي والتطلع الحضاري. في العالم العربي لم نزل نصارع أسئلة أكل الدهر عليها وشرب لدى الأمم المتقدمة والمتحضرة، ولازال مستوى التوجّس من التغيير والتطوير عالياً، ولم تزل شرائح كبيرةٌ تتعلق بالماضي والقديم بعد إعادة رسمهما وفق خيالٍ خصبٍ تحدوه الأسطورة وينمّيه الإحساس العميق بالعجز عن ملاحقة الركب فضلاً عن المنافسة على المقدّمة. ربما يوحي المشهد العربي العام بأنّنا نتأخر أكثر مما نتقدّم، نتراجع في سلم الحضارة أكثر مما نرتقي، وعلى هذا دلائل كثيرة ليس من أقلّها ما نراه من صعودٍ وانتشارٍ لخطاباتٍ دينيةٍ متشدّدةٍ، مسيّسةٍ كانت أم غير مسيّسةٍ، سلفيةٍ كانت أم غير سلفيّةٍ، والمؤكّد أنّها بشتى تصنيفاتها تقليدية أو سياسيةٍ أو صوفيةٍ أو غيرها تكتسب مواقع مؤثرةٍ في الحراك السياسي والاجتماعي. ربما كان هذا صحيحاً، بل هو صحيحٌ في هذا الإطار، غير أن ما نغفله هو أنّ خطاب التقدّم والتنوير من حيث هو منتجٌ حضاريٌ إنسانيٌ عامٌ لا غربيٌ فحسب، إنّ هذا الخطاب وهذا الفكر والأنظمة والمؤسسات والأفكار المنبثقة عنه تروج بيننا بشكلٍ مذهلٍ وذلك بقوّة الدفع الحضارية الذاتية، وباضطرار الجميع بما فيهم خصوم ذلك الخطاب التقليديون الماضويون على التعامل معه والخضوع له في مواضع كثيرةٍ ومؤثرةٍ وفاعلة. دعونا ننظر للمشهد العربي نظرةٍ عامةٍ لنكتشف أنّ المبادئ الكبرى لهذا الخطاب التنويري العالمي قد أصبحت مبادئ عامةً لا يجرؤ أحدٌ على مخالفتها، مثل حقوق الإنسان وحقوق المرأة والقيم العالمية الجديدة في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع وغيرها، فضلاً عن الرضوخ المحتّم للاكتشافات العلميّة المذهلة، والاستسلام التام للمنتجات التقنية الحديثة التي يتسابق في استخدامها الماضوي والتنويري، الكبير والصغير، وأقرب أمثلتها المعاصرة الفضائيات والإنترنت، وأوضح تجلٍ لهذا الانخراط الكبير مع العالم الحديث بشروطه هو الأزمة المالية العالمية الراهنة. إنّ ما يمكن تسميته بـ"جيل العولمة" في العالم العربي، والذي تمثله شريحة الشباب دون العشرين عاماً، وهي الشريحة الأكبر في العالم العربي، منخرط بشكلٍ شبه كاملٍ في عصر العولمة والتنوير، وهو لا يكاد يشعر بالتابوهات القديمة على كافة المستويات وعلى رأسها التابوهات الدينية والسياسية، ويظهر هذا جلياً عندما تصطدم تلك التابوهات بالقيم الحديثة وحقوق الإنسان والحقائق العلمية المبرهنة، وهذه جميعاً قد أصبحت اليوم جزءاً من عجينة شريحة الشباب الغضّة، يزيدها التواصل الإنساني المباشر مع كافة أصناف البشر المنتمين لحضارات مختلفةٍ ودياناتٍ شتى وموروثاتٍ متباينة، ويتمّ هذا التواصل عبر طرق متعددة، فهو إمّا أن يتم عبر البعثات التعليمية، وإما عن طريق الهجرة، وإمّا وهو الأكثر عن طريق الإنترنت، وما يتيحه من بناء علاقاتٍ وصداقاتٍ عبر القارات، ففي موقعٍ كموقع "الفيس بوك" على سبيل المثال، يتواصل الشباب بشكلٍ مكثّفٍ وشبه يوميٍ على مسائل وقضايا حديثة تفرضها شروط الراهن وتداولات اليومي والمعيش. إنّ انخراط أفرادٍ وجماعاتٍ متعلّقة بالقديم في مثل هذه المنتجات الحديثة، هو بشكل واضحٍ رضوخٌ لقوّتها وجبروتها ومقياس لنفوذ تأثيرها بعيداً في أعماق المجتمع الإنساني المعاصر، نعم، ثمة من يسعى لتوظيف هذه المنتجات لخدمة التأخر والتخلف ونشر خطابات ماضويةٍ قديمةٍ، ولكنّ النظرة الواسعة للمشهد تعني أنّهم وجدوا أنفسهم مضطرّين لركوب قطار التقدّم والحداثة وإن سعوا لإحداثٍ شيء من الشغب بين الركّاب غير أنّ المهم، هو أنهم ركبوا القطار والسلام. ونحن نشهد ومنذ سنواتٍ قليلةٍ مضت كيف أنّ فتوى متخلّفةً أو محاضرة ماضوية بائسة أو بياناً دينياً متشدداً، أنّ كل واحدةٍ منها تثير ردود أفعالٍ عالميةٍ وتتناقلها وسائل الإعلام بكافة اللغات بالنقد والتشهير وأحياناً بكثيرٍ من السخرية والاستهجان، مما يضطر مطلقيها راغمين إلى اللجوء للتراجع والتوضيح مع كثيرٍ من التحرّز والمشي بحذرٍ تامٍ على حقول ألغامٍ لم يعتادوا المشي عليها من قبل، وقد شهدنا هذا في مجالاتٍ متنوعةٍ، منها مجال الكوارث الإنسانية ككارثة "تسونامي"، ومنها مجال حقوق المرأة عبر فتوى إرضاع الكبير أو فتوى إباحة ضربها، ومنها مجال الأفلام الكرتونية ورموزها الشهيرة، وغيرها الكثير من المجالات، التي ليس هذا مجال الإطناب في ذكرها وتفصيلاتها. إنّ المحصلة النهائية من هذا الاستعراض العام، هي التأكيد أنّ للزمن وحركته، وللواقع وشروطه، أثراً بالغاً ليس فقط على المتعايشين معه أو الراغبين فيه، بل أيضاً -وهو الأهم- على المعادين له الساعين بمثابرة إلى التخندق عن تأثيراته ويده الطولى في صياغة البشر والأنظمة المحرّكة للمجتمعات والعلاقات الدولية، بل وفي الخطابات المحليّة والصراعات الفكرية هنا وهناك. إنّ الانخراط في العالم اليوم لم يعد خياراً، فالعالم يقتحمنا بشكلٍ شبه كاملٍ، ونحن منخرطون فيه شئنا أم أبينا، ويتوقف على حراكنا الثقافي والاجتماعي والسياسي اختيار الطريق الأمثل لهذا الانخراط، هل يكون مدروساً ومخططاً له بحيث نأخذ الأنفع بأكبر مقدارٍ ونأخذ السيئ بأقلّ مقدارٍ لأن خياراتنا في الرفض والانزواء محدودة وضيقة؟ ثم هل نبادر لهذا الانخراط ونعدّ له عدّته أم نترك الأمور تأخذ مجراها ونحن نتفرّج ونندب حظوظنا العاثرة ونلقي بالتبعة على "آخر الزمان" الذي لا نهجوه إلا بقدر ما يقتحمنا ويفرض شروطه علينا على كافة المستويات؟ خياراتنا اليوم ترسم مستقبلنا غداً، وإجاباتنا الحاضرة يجب أن تضع خطانا القادمة على الطريق الأصلح والأنفع والأسلم، ومبادرتنا أو تكاسلنا سيكونان الحكم على موضعنا في السلم الحضاري والتأثير العالمي. وما نحن والنظام العالمي وخطابه وفكره إلا كما قال الأول: خذا بطن هرشا أو قفاها فإنّه/ كلا جانبي هرشا لهنّ طريق