إلى ما قبل أيام قليلة خلت، كانت الدلائل تشير إلى أن منطقة الهند الصينية ماضية نحو حروب طاحنة كتلك التي اكتوت بنارها وذاقت مرارتها قبل عقود من الزمن، تارة تحت شعار الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، وتارة أخرى تحت شعار التحرر من سطوة الإمبريالية الأميركية، وما بين هذا وذاك دارت بطبيعة الحال صراعات دموية مريرة ما بين الإدارات الوطنية حول المغانم والحصص ونشر الأيديولوجيا، بلغت ذروة وحشيتها في ما قام به الخمير الحمر بقيادة بول بوت في كمبوديا، والذي سيذكر التاريخ مسؤوليته عن مقتل مليوني بريء في معتقلات التعذيب أو معسكرات النفي وإعادة التثقيف. ومما زاد من قوة هذه الدلائل وقوع اشتباكات وتبادل لاطلاق النار ما بين القوات التايلاندية والكمبودية، أسفرت عن قتيل وأربعة جرحى على الأقل، فضلًا عن تدفق الحشود والآليات العسكرية. المختلف هذه المرة هو أن سبب الصدام لا علاقة له بالعوامل الخارجية أو الاستقطابات الدولية كما في الماضي وإنما هو سبب تاريخي بحت، أو بعبارة أدق خلاف حول ملكية معابد هندوسية وبوذية متناثرة على مساحة من الأرض على حدود تايلاند وكمبوديا، وهما جارتان لئن اشتركتا في التاريخ والثقافة، فإن بينهما أيضاً ما صنع الحداد من أيام الحرب الباردة حينما كانت تايلاند قاعدة عسكرية متقدمة للأميركان في حربهم ضد قوات الفيتكونج والباتيتلاو الشيوعية، فيما كانت كمبوديا تنتقل من الحياد، كما في حقبة الأمير نوردوم سيهانوك، إلى التحالف مع الأميركان، كما في حقبة لون نول، ثم إلى التحالف مع الشيوعيين، كما في زمن الخمير الحمر. والحقيقة أن الخلاف بين البلدين الآسيويين ليس وليد اليوم، وإنما يعود إلى عام 1962 حينما قررت محكمة العدل الدولية أن ملكية معابد "برياه فيهيار" المقامة على منحدر جبلي بارتفاع 1700 قدم في شمال كمبوديا وإلى الشرق من إقليم "سيساكيت" التايلاندي، تعود إلى كمبوديا بحجة أن الفترات التي كانت خاضعة فيها لحكم ملوك الخمير الحمر، هي الأطول ثم بحجة أن التايلانديين لم يثيروا الموضوع لزمن طويل، وهو ما لم تقبل به بانكوك من منطلق أن الوصول إلى تلك المعابد من خلال أراضيها أسهل، ناهيك عن ارتباط قدسيتها بقدسية بقية المعابد التايلاندية. وإذا ما ذهبنا أبعد من ذلك، فإننا نجد أن تلك المعابد صارت موضوعاً عاطفياً يثير المشاعر القومية عند الشعبين التايلاندي والكمبودي منذ اكتشافها على يد بعثات الآثار الفرنسية في مطلع القرن العشرين. ففي عام 1904 شكلت مملكة سيام والإدارة الاستعمارية الفرنسية لكمبوديا لجنة مشتركة لتحديد الحدود الفاصلة ما بين البلدين، وكانت التعليمات هي الالتزام بتحديد الحدود وفق خطوط الظل لسلسلة جبال دانجريك، وهو ما جعل المعابد تقع في الجانب الكمبودي من الحدود. بعد ذلك، وتحديداً في عام 1907 بعث الفرنسيون إلى التايلانديين نتائج أعمال مسح دقيقة تؤكد الحقيقة السابقة. لكن الطرف الأخير تحفظ على ذلك ثم انتهز مغادرة القوات الفرنسية لكمبوديا في عام 1954 ليقوم باحتلال المعابد. ورداً على هذه الخطوة اشتكت "فنوم بنه" بانكوك لدى محكمة العدل الدولية في عام 1959، فكان قرار الأخيرة السالف الذكر، والذي اتخذ بنسبة 9 إلى 3، إلى جانب قرار آخر اتخذ بنسبة 7 إلى 5 يدعو حكومة بانكوك إلى إعادة كل التحف والنفائس إلى المعابد من تلك التي قد تكون استولت عليها. وتأكيداً على نزعتها السلمية ورغبتها في تجنب الصراعات الدموية التي كانت تحيط بالمنطقة وقتذاك، قررت بانكوك في عام 1963 الامتثال لقرار محكمة العدل الدولية، وسحب قواتها وإنزال علمها من المنطقة المتنازع عليها، ليدخلها على الفور ألف كمبودي من متسلقي الجبال يتقدمهم الأمير "نوردوم سيهانوك" الذي ألقى في المحتشدين خطاباً عاطفياً، قدر فيه لجيرانه التايلانديين أريحيتهم وتفهمهم وتقدم نحوهم بمبادرة كريمة تمثلت في تنازل بلاده عن كل التحف والنفائس، التي قد تكون نقلت من معابد "برياه فيهيار"، وتأكيده على حق كل التايلانديين في زيارة المعابد وقتما يشاؤون ومن دون تأشيرات. ظروف الحرب الباردة، لم تترك تايلاند أو جاراتها تعيش بسلام. فالحرب الكمبودية الأهلية استمرت وشهدت متغيرات كثيرة. صحيح أن المعابد المذكورة ظلت قلعة حصينة لوقت طويل في يد قوات الجنرال "لون نول" الحليفة لواشنطن، لكن الصحيح أيضاً أنها كانت لسنوات مستهدفة من قبل الخمير الحمر، حتى تمكنوا من الاستيلاء عليها في مايو 1975 وسدوا المنافذ السياحية التايلاندية إليها. بعد ذلك وتحديداً منذ ديسمبر 1978 صار هذا الموقع الأثري المهم مستهدفاً لأسباب استراتيجية من قبل القوات الفيتنامية التي غزت كمبوديا للإطاحة بنظام "بول بوت”. لكن ما سيذكر للفيتناميين أنهم رغم هجومهم العسكري على الخمير الحمر المتحصنين في تلك المعابد، تجنبوا الإضرار بهذا الكنز الأثري، بعكس أصحاب البلد. أما أسباب عودة موضوع المعابد إلى الواجهة اليوم، فإنه لئن كان مرتبطاً إلى حد ما بالأزمة السياسية التي تعيشها تايلاند منذ إقالة رئيس حكومتها القوي "تاكسين شيناواترا"، فإنه من جهة أخرى يرتبط بقرار منظمة اليونيسكو في يوليو الماضي إضافة المعابد إلى قائمة المواقع التاريخية العالمية. وبعبارة أخرى، فإنه بمجرد قيام اليونيسكو بفتح الباب أمام تلقي الطلبات في هذا الخصوص أعلنت كمبوديا نيتها بالتقدم لضم المعابد إلى قائمة تضم 26 موقعاً أثرياً عالمياً جديداً. هنا اعترض التايلانديون بحجة أنه طالما وجد خلاف حول المعابد، فإنه لا يحق لأحد طرفي النزاع أن يبت وحده في أمرها، وأن المفترض هو الاتفاق على قرار ثنائي بخصوصها، وهو ما تم حينما بادرت الدولتان إلى التقدم بطلب مشترك إلى الاجتماع 32 للجنة التراث العالمي في مونتريال، من منطلق أن تلك المعابد تجسد قيمة أثرية عالمية يجدر الاهتمام بها والمحافظة عليها، علما بأن مبادرة الدولتين جاءت على خلفية اتفاق يقضي بإعادة ترسيم الحدود المشتركة بحيث تخضع المعابد والأراضي الملحقة مباشرة بها لسيادة كمبوديا، وهو ما فرض على تايلاند التخلي عن أراض تسيطر عليها بمساحة 4 - 6 كيلومترات مربعة. لكن الاحتجاجات الداخلية في تايلاند ضد الاتفاقية تحت مبرر أنها سابقة تعطي للكمبوديين حق التوسع على حساب جيرانهم، جعلت بانكوك تتراجع عن قرارها المشترك مع "فنوم بنه"، فيما مضت الأخيرة بمفردها تطالب اليونيسكو بوضع المعابد على قائمة التراث العالمي، وهو ما تم لها فعلاً في يوليو 2008 . هذه الأزمة تصلح للإدعاء بأن دول جنوب شرق آسيا والهند الصينية بقدر ما هي تتعلم من تجارب بعضها بعضا في النمو الاقتصادي وصناعة المعرفة والتقدم التكنولوجي، فإنها تتعلم أيضاً من بعضها بعضا الحنكة السياسية والكلفة الهائلة للعودة إلى لغة الحروب والعنتريات في تسوية مشاكلها. إذ بدا الجانبان التايلاندي والكمبودي حريصين على عدم التصعيد رغم الاشتباكات العسكرية الحدودية والضغوط الداخلية. فرئيس الحكومة التايلاندية قال للصحافيين: "إن سياساتنا تقوم على حل الخلاف مع جيراننا عن طريق المفاوضات"، رغم أن بلاده هي الأكبر والأغنى والأقوى تسليحاً بفضل تحالفها مع الأميركيين وحلف "الناتو"، فيما ظل وزير خارجية كمبوديا ينفي لوسائل الإعلام حدوث غزو تايلاندي لبلاده، رغم أن القوات الكمبودية هي الأشرس والأقدر على خوض غمار حروب الأدغال. وهكذا نجح الجانبان في نزع فتيل أزمة كان بالامكان أن تعيد منطقة الهند الصينية إلى زمن حروب الستينيات. كمبوديا- ومعها أيضاً لاوس- تحاولان اليوم انتهاج نهج الفيتناميين الذين كانوا أول من نبذ العنف والدموية، وفتح أبوابه لخصوم الأمس: تجارة واستثماراً وسياحة، إلى الحد الذي صارت معه بعض ما كان يقاوم في الماضي تحت ستار حماية المجتمع من التغريب والأمركة كموسيقى الروك اند رول و فن الجاز ومستحضرات ايف سانت لورانس و خبز الباغيت وفطيرة الكرواسان من معالم مدينة سايجون. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين elmadani@batelco.com.bh