الإدمان حالة تصيب البشر الذين يتعوَّدون تعاطي شيء معين في أوقات معينة، أي أنه نوع من التعود الشديد للإنسان يربطه بما تعوَّد عليه، ومن ثم يصعب بل يستحيل أن يتخلى عنه، ويصبح حالة مرضية لا يمكن الفكاك منها بسهولة، فعلاجها يحتاج إلى أطباء متخصصين وفترات طويلة، وأن يقتنع المدمن أولاً بحاجته إلى العلاج ثم يقبله طواعية، على أن تكون لديه إرادة حديدية للإقلاع عن إدمانه. ومن المعروف أنه إذا أدمن الإنسان شيئاً فإنه يصعب عليه تركه، خاصة إذا أدى ذلك إلى تداعيات مرضية أو نفسية أو معنوية، مثل الصداع أو الرشح أو الهرش أو التشنج والعصبية، ناهيك عن التشوش الفكري والعقلي وربما الجنون. ويذكرني هذا بسخرية قصة الرجل الذي ذهب إلى عرافة تكشف الطالع، واشتكى لها من المصائب والأزمات التي لا تفارقه بحيث أصبح غارقاً لأذنيه في المشكلات والديون والألم، وبعد أن تنقلت بنظراتها بين بلورتها السحرية ووجهه العابس مرات عدة، قالت له يا ولدي إن السنوات الخمس المقبلة ستكون بؤساً عليك، أما السنوات الخمس التي تليها فستكون مليئة بالأزمات، فسألها عما سيحدث بعد ذلك فقالت وهي مبتسمة: ستكون قد تعوَّدت الوضع وأدمنته. أعتقد أن هذا حال الأمة العربية، من محيطها المأزوم إرهابياً إلى خليجها المكشوف أمنياً. ومن الواضح أن العرب قد أدمنوا الأزمات، وبات غيابها يصيبهم بصداع الفراغ السياسي، والهرش الفكري، وصرع الفتاوى، والتشنج والعصبية في الخطاب الديني والإعلامي، والجنون الإرهابي، والسقوط في دوامة الصراعات الداخلية، لسبب بسيط: أن الأزمات على تنوعها تمثل للعرب بأسرهم الشماعة الجاهزة لتحمل أخطائهم وفشلهم وتراجعهم في المجالات كافة. تمثل الأزمات المصيرية العربية مشجباً لتعليق كل شيء عليه، من ديكتاتورية سياسية، أو وهن اقتصادي وتجاري، أو أنيميا تكنولوجية، أو تراجع اجتماعي، أو ضعف صناعي، أو الخلل في التوازن الاستراتيجي، بل حتى النكبات والكوارث كان سببها الاستعمار والمؤامرات الخارجية وأطماع دول الجوار... فهل أدمن العرب الأزمات كمهرب من أن يكونوا فاعلين وليس مفعولاً بهم؟ أعتقد أن الإجابة بتجرد وصدق على هذا السؤال، للأسف، هي: نعم... فقد استمرأ العرب الأزمات تلو الأزمات، بحيث لم يعد لديهم وقت للتفكير في الحاضر فما بالنا بالمستقبل، بل لم يعد العرب يملكون اليوم ترف الحديث عن إنجازات الماضي والتغني بالتقدم الحضاري العربي والإسلامي الذي بهر العالم وقاد تقدمه في كافة المجالات، بعد أن توارى العرب خجلاً من ضعفهم الشامل وتخاذلهم في اللحاق بركب الإنسانية، وأصبحوا على هامش التاريخ يتسوَّلون كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ. انشغل العرب اليوم بالبحث عن لقمة العيش، ومزاحمة العالم في إنتاجه وتصنيعه، ولم يحاولوا أن يمتلكوا مفاتيح العصر من تصنيع وإنتاج ومعرفة. تراجع التعليم وأصبح اليوم في أزمة بحجة الانشغال بتوفير متطلبات الحياة والمعيشة، والتي بلغت في بعض الدول العربية حداً يصعب تحمله بعد أن تراكمت عليها الأزمات من كل حدب وصوب، ومعظمها من صنع أيدي حكوماتها. وإذا جاء الحديث عن ضرورة الإصلاح السياسي والتداول السلمي للسلطة والحكم الرشيد وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، فإن أزمة الحركات الإسلامية والتطرف والعنف والإرهاب تقفز إلى السطح وتصبح الشماعة الجاهزة لعدم إصلاح أي شيء أو التحرك تجاه الفعل. ونظراً إلى غياب الشفافية وعدم دقة المعلومات المتوافرة وضعف التشريعات القانونية التي تنظم كل شيء أو وجود ثغرات فيها تسمح بالفساد أو باختراقها أو الالتفاف حولها، فإن الأزمات تكون دائماً هي المدخل والمخرج لكل مسؤول، فعندما تحدث الأزمة يكون السبب عدم صحة الاستراتيجيات والقرارات والسياسات والإجراءات والبرامج المتبعة، لأنها مبنية أساساً على خطأ معلوماتي أو قانوني، وكذلك الحال إذا كانت هناك أزمة، فإنه يتم التذرُّع بوجود أزمات أخرى لها الأولوية. الإغراق في الأزمات دفع المواطن العربي إلى اليأس داخلياً وفقدان الأمل خارجياً، وجرَّده من القدرة على الإبداع والابتكار والتطوير، لذلك عندما يتحدث أحد عن الاجترار والتكرار وضعف المحتوى في كل شيء من السياسة إلى العلم مروراً بالفن والثقافة والإعلام، بل حتى التردي في مصطلحات التعامل اليومي وفقدان القيم وأخلاقيات العمل والتعامل، فإن "كل إناء بالذي فيه ينضح"، لذلك تظل الأزمات ملاذاً آمناً يبرر السلبية في كل شيء. عندما يأتي ذكر العراق ويتغنى البعض بفترة حكم الطاغية صدام حسين ونظامه الفاسد ويقارن بينها وبين الوضع الراهن، نجد أن الأزمات والصراع الداخلي سمة رئيسية تصبغ تاريخ العراق الحديث، والفرق أنه خلال حكم صدام كان القتل والتنكيل والتعذيب والانتقام يأتي من اتجاه واحد وهو السلطة الحاكمة وزبانيتها ومريديها وأنصارها، في حين أن الأمر حالياً متاح للقوى الداخلية والخارجية على السواء، فالكل يقاتل الكل، أما موضوع الاستقرار والأمن الداخلي فلم يتحقق على مدى عقود حيث ضاع أمن وأمان المواطن بين الخوف المستمر من النظام وأعوانه والمغامرات العسكرية لصدام حسين في إيران والكويت، ثم في الحرب الطائفية الراهنة التي دق إسفينها بوش الصغير يوم قرر غزو العراق. لكن العراق ذاته بات أزمة تستند اليها بعض الحكومات في كثير من الدول العربية لتبرير ازدياد التضخم وارتفاع الأسعار وانتشار الفقر وتدني ظروف المعيشة! فهم مشغولون ليل نهار للتوصل إلى مصالحة وطنية في العراق ومؤتمرات دول الجوار منعقدة بصفة مستمرة، ولا أحد يعرف لماذا. إن إيران تشارك في المؤتمرات من ناحية، في حين أنها تتدخل بكل قواها في شؤون العراق من ناحية أخرى، وتقوم بتأجيج نيران الطائفية وتدعم الحرب الأهلية عسى أن يسقط العراق في براثن التقسيم، وسوريا ترحب دائماً بمشاركتها في هذه المؤتمرات وتعلن بشدة عدم تدخلها في الشؤون الداخلية العراقية بينما تفتح حدودها على مصراعيها لدخول المرتزقة للقتال في العراق وتعبث بأمنه واستقراره، أما تركيا فإنها تستغل أزمة الفوضى الأمنية في العراق وتحاول تصفية حساباتها مع الأكراد... فيغرق العرب في مزيد من الأزمات التي تجعلهم يحمدون الله على ما هم فيه، بينما حكوماتهم تجعل من أزمة العراق سيناريو مستحقاً وقابلاً للتكرار في دولهم لو تركوا الحكم أو حاولوا تغييره. إن العراق مثال على أزمات كثيرة تضرب في الجسد العربي، وهناك دول عربية عدة معرضة للتقسيم والانقسام، والكل يعيش في أزمة مستمرة، ولكن أحداً لا يفعل شيئاً، فالحل بـ"القطاعي" لم يصلح، والحل بـ"الجملة" فشل كذلك، والتفاهمات والمصالحات والحوارات لم تصل إلى شيء. إذن، هل العيش في أزمة مستمرة يظل أسمى الأماني؟ ربما يكون ذلك صحيحاً، فإحدى الدول العربية الكبرى أتت بخبراء من اليابان وقبلهم من ألمانيا وأغدقت عليهم المكافآت والأموال لدراسة أزمة المرور الخانقة وإيجاد حل ناجع لها، لكن بعد أن مكث هؤلاء الخبراء الأكفاء في عاصمة هذه الدولة لمدة ثلاثة أشهر، أعادوا كل المصروفات والمكافآت التي حصلوا عليها، بل وقرروا دفع مبلغ إضافي من المال ليتركوهم في حالهم، وأعلنوا عن جائزة كبرى لمن يدلهم على طريقة استمرار هذه الدولة وحياة شعبها وسط الأزمة المرورية التي تعوق العمل وتفسد البيئة وتضيع الوقت هباءً وتستنزف الوقود وتثير أعصاب الناس. إن الدارس للوضع العربي الراهن يستطيع بكل سهولة التوصل إلى نظرية جديدة في السياسة والحكم تسعى إلى إثبات أن "إدمان الأزمات يريح الحكومات". وحتى الأزمة المالية العالمية التي تتوالى تداعياتها السلبية على المستويين الإقليمي والمحلي، استطاعت بعض الحكومات العربية الاستفادة منها لتبرير تراجع مؤشراتها الاقتصادية، واكتفت بذلك وانتظرت مزيداً من الأزمات لتغطية عجزها عن مواكبة التطورات في العالم.