بينما ندخل الأسبوع النهائي لحملة انتخابات الرئاسة الأميركية، تواصل استطلاعات الرأي تعريف شريحة جوهرية من الناخبين بأنهم ناخبون "مترددون". ورغم أن عدد أفراد تلك الشريحة آخذ في التقلص، فإنهم لا يزالون قادرين على تحديد نتيجة السباق في بعض الولايات. وقد صور الكوميديون والمعلقون هؤلاء الأشخاص في صورة "الأغبياء" غير القادرين على القيام بأبسط الاختيارات، غير أن الأبحاث الأخيرة في علم الأعصاب وعلم النفس أثبتت أن فئة الأشخاص "المترددين" هم في الحقيقة أكثر ذكاءً مما نعتقد. فهم ليسوا غير مبالين، أو غير قادرين على إجراء اختيارات واضحة بين مرشحين متناقضين تماماً كما يُظن، وإنما هم هم ببساطة شديدة أكثر رغبة من الآخرين في منح أنفسهم الوقت الكافي، غير مدركين أنهم، وهم يقومون بذلك، قد اتخذوا خياراً بالفعل. ويشار إلى أن علماء الأعصاب قد بدأوا منذ وقت في التنقيب عن المعلومات الخاصة بالأنظمة الدماغية المسؤولة عن اتخاذ القرارات، وتبين لهم أن عملية اتخاذ القرارات، حتى تلك التي لا تستغرق سوى ثانية واحدة، تتكون من جزءَيْن: الأول جمع الأدلة، والثاني الالتزام بقرار معين. فحتى في المهام العقلية السهلة، مثل تحديد ما إذا كان نمط معين من الرسوم المتحركة يتحرك ناحية اليمين أم ناحية اليسار، تثبت الأبحاث أن النشاط الدماغي في منطقة اللحاء الجداري يرتفع بسبب عملية جمع الأدلة، إلى أن يصل في النهاية إلى النقطة التي تميل فيها الكفة إلى جهة دون أخرى. وعملية الاختيار -في جوهرها- هي عملية مقايضة بين السرعة والدقة. فكلما أسرع الدماغ في اتخاذ القرار كان احتمال دقة هذا القرار أقل... أما إذا ما تباطأ وحصل على مزيد من الوقت للاختيار فإن الاحتمال الأرجح هو أن يكون هذا الخيار أكثر دقة. ونظراً لأن الالتزام باختيار باراك أوباما أو جون ماكين، ليس مطلوباً قبل الرابع من نوفمبر المقبل، فالشيء الأفضل بالنسبة لأي ناخب هو أن يعطي نفسه المزيد من الوقت لجمع أكبر عدد من الأدلة يمكّنه من الاختيار السليم. وتشير الأبحاث المتعلقة بقياس النشاط الدماغي المرتبط بعملية اتخاذ القرار إلى أن الدماغ، وبعد أن يجمع عدداً كافياً من الأدلة يصل به إلى "عتبة اتخاذ القرار"، يصبح أكثر ميلاً لتجاهل مزيد من الأدلة الواردة حتى لو كانت تلك الأدلة ستساهم في تحسين عملية الدقة في اتخاذ القرار. هذا المنطق يوحي بأن كل ما يحتاجه الناخبون "المترددون" هو مزيد من الثقة قبل أن يلتزموا باختيار معين. ومراكز استطلاع الرأي تعرف هذه الحقيقة، ولذلك تعمل على دفع هذه النوعية من الناخبين دفعاً لتحديد تفضيلاتهم. ورغم أن هذه المقاربة قد تبدو فظة نوعاً ما، فإنها تساعد على إعطاء قراءة شبه دقيقة لحجم الدعم الذي يحظى به مرشح معين. وفي الدراسات النفسية، يقوم الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بأنهم "مترددون" غالباً بالإعراب عن تفضيلات معينة عندما يتم إجبارهم على الاختيار. فعندما يقول أحدهم عن نفسه بأنه "واثق بدرجة معقولة" بشأن قرار يتعلق بقبول وظيفة جديدة، فمعنى ذلك ببساطة أن اختياره النهائي لهذه الوظيفة هو اختيار يكاد يكون "واثقاً تماماً". والشيء المثير للانتباه في هذا الصدد، هو أن الشخص نفسه قد لا يكون واعياً بالتزامه الداخلي بخيار ما. ففي أحد التجارب العملية طلب من بعض الأشخاص المشاركة في إحدى ألعاب القمار، وكانت هذه اللعبة تقوم على اختيار أوراق لعب معينة موضوعة على عدة طاولات، وكانت الأوراق الموضوعة على طاولات معينة موزعة بطريقة تؤدي بمن يختارها إلى الخسارة، وبعد أن استمرت اللعبة بعض الوقت، وأدرك اللاعبون أن اختيار أوراق من تلك الطاولات يؤدي بهم إلى الخسارة، فإنهم امتنعوا -غريزياً- عن سحب أي أوراق من تلك الطاولات. وكان قرارهم الخاص بذلك حدسياً بالدرجة الأولى ولا يعتمد على معطيات معينة. والأشخاص الذين يعانون من خلل دماغي في منطقة اللحاء الماقبل جبهي الأوسط، وهي المنطقة المسؤولة عن اتخاذ المواقف في الدماغ البشري، يحتاجون إلى وقت طويل للغاية حتى يتخذون قراراً معيناً. ليس القصد من ذلك بالطبع القول إن الناخبين المترددين يعانون خللًا في الدماغ... فكل ما هنالك هو أنهم يحتاجون إلى فترة أطول من غيرهم من أجل تكوين الثقة في عملية الاختيار. وهناك سؤال قد يرد إلى الذهن في هذا السياق هو: إذا ما كانت القرارات كامنة في منطقة ما من أدمغة الناخبين "المترددين"، فهل يمكن معرفة ميول هؤلاء الناخبين من خلال تقنيات تصوير الدماغ المتطورة؟ الإجابة: ليس بعد. فالوسيلة الأكثر نجاعة في هذا السياق هي طرح أسئلة مباشرة على هؤلاء الناخبين من مثل: أي المرشحين تعتقد أنه يتفهم مشاكلك بشكل أفضل؟ هل أنت أكثر اهتماماً بالاقتصاد أم بالإرهاب؟ من المرشح صاحب الطباع الشخصية الأفضل في رأيك؟ ويمكن استخدام إجابات الناخبين المترددين على تلك الأسئلة في التنبؤ باختياراتهم النهائية. مع ذلك كله، لا يمكن الادعاء بأن استطلاعات الرأي تمثل وسائل دقيقة للتنبؤ بالنتيجة التي ستسفر عنها الانتخابات، لأن الناخبين في عمومهم سيظلون "مترددين" حتى حلول يوم الإدلاء بالأصوات في الرابع من نوفمبر المقبل. ------ جوشوا جولد أستاذ علم الأعصاب المساعد بجامعة بنسلفانيا ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"