هل الأزمة المالية الحالية، والتي تحولت فعلاً إلى أزمة اقتصادية، هي السبب في أزمة النظام العالمي أم بالأحرى كاشفة له؟ ليس هذا السؤال نظرياً فقط، بل ذا قيمة عملية كبيرة، لأنه إذا لم يكن تشخيص الداء سليماً، فمن المؤكد أن الدواء لن يكون سليماً أيضاً، بل يخطئ الهدف وقد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة تسيء إلى المريض أكثر وأكثر بدلاً من أن تُخفِّف من علته. باختصار شديد، أزمة النظام العالمي الحالية تكمن في قيادته، وهي أساساً أميركية، ليس فقط السياسة الخارجية الأميركية، وعسكرة العلاقات الدولية التي ميَّزتها وأصبحت من أهم عُملاتها المتداولة، ولكن أيضاً النمط الخاص بالرأسمالية الأميركية ذاتها. وفي الحقيقة، فإن الأزمة المالية الاقتصادية الحالية، يجب أن تلفت النظر حتى بعض المتخصصين عندنا إلى ضرورة التخلص من تبسيط مُخل، وهو أن الرأسمالية التي انتصرت دون منازع مع نهاية الحرب الباردة في عام 1990-1991 ما هي إلا نمط وحد، وهو تصور خاطئ تماماً. فنحن نرى بكل وضوح أن النمط الرأسمالي الموجود في الأردن ومصر، أو حتى دول الخليج، يختلف عن نمط الرأسمالية الأميركي، وفي الحقيقة تختلف الرأسمالية الأميركية حتى عن الرأسمالية الأوروبية، في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وعما هو في الدول الإسكندنافية وفي طليعتها السويد. هذه الرأسماليات الأوروبية تستند إلى محتوى اجتماعي قوي من الضرائب التصاعدية وتدخُّل الدول لمساعدة الفقراء عن طريق نظام للتأمينات الاجتماعية، وبالتالي عدم ترك الحرية الكاملة للسوق وأهوائه. أما في رأسمالية أميركا فإن هناك رفضاً كاملاً لأي تدخل في حرية السوق وحتى الكلام عن الحكومة لا يلقى ترحيباً كبيراً. وأصبح هذا التوجه ليس فقط في الاقتصاد وإدارته، ولكنه أصبح ثقافة ونمط تفكير شائع في الشارع الأميركي. أين إذن تكمن المشكلة الحالية، وما هو حلها؟ تكمن المشكلة في أننا عالمياً قبلنا النمط الأميركي للرأسمالية وحتى في إدارة الشؤون العامة على أنه النمط الأمثل الذي يجب على الجميع اتباعه والوصول إليه. وبهذا السلوك أعطت غالبية الدول لأميركا ميزة معنوية تُضاف إلى عوامل القوة الأميركية المادية والتي لا يمكن إنكارها. أصبحت الهيمنة الأميركية العالمية كاملة تقريباً، وحتى هؤلاء الذين ينتقدونها ويشكون مر الشكوى من أميركا، يهرولون لإرسال أولادهم إلى الجامعات الأميركية في الولايات المتحدة نفسها، أو إذا تعذر ذلك، فإلى فروع الجامعات الأميركية في منطقتنا. الكل تقريباً يُشاهد الأفلام الأميركية، ويتعلم اللغة الأميركية، ليس فقط كلغة إنجليزية ولكن لغة للإدارة، والطب، والبحث العلمي... وباختصار شديد، لقد ترافقت القوة المادية الأميركية مع هيمنة ثقافية أميركية واسعة، بحيث أصبح نمط القطب الأوحد مقبولاً عن طيب خاطر في أنحاء العالم المختلفة. هذا الإذعان العالمي للنمط الأميركي الأوحد، أعطى شعوراً بالثقة مبالغاً فيه للداخل الأميركي، أصابه بنوع من الغطرسة أدى -بوعي أو بدون وعي- إلى الإفراط في الانفرادية وفي سياسات عسكرة العلاقات الدولية من جانب النخبة الحاكمة في فريق جورج بوش... لكنه انعكس أيضاً في نمط الإنفاق الأميركي، في الداخل قبل الخارج، وبالتالي تعثر الداخل بعد الخارج، وبما أن ناتج الاقتصاد الأميركي لا زال يمثل حوالي 25? من الناتج الإجمالي العالمي، فقد تعثر العالم أيضاً. إحدى النتائج الإيجابية للأزمة المالية الحالية، أن أميركا والأميركيين أصبحوا على استعداد الآن لسماع الآخرين، ولمراجعة كثير من أفكارهم وأنماط سلوكهم. وهذه هي فرصة العالم -بما فيه الدول العربية- لوضع نظام عالمي أقل أحادية وأقل هشاشة. ألم يقل المثل الصيني إن الأزمة قد تكون لحظة انفراج لأنها نذير ميلاد جديد؟