تشير آخر المعطيات المتوفرة لدى حركة "السلام الآن" إلى أنه خلال فترة حكومة إيهود أولمرت تم بناء ما لا يقل عن أربعة آلاف وحدة سكنية جديدة في مستعمرات (مستوطنات) الضفة الغربية، إضافة إلى نشر مناقصات لبناء 1433 وحدة سكنية أخرى. كما أقيم 1300 مبنى (يشمل بعضها أكثر من وحدة سكنية واحدة) في "المستوطنات" الواقعة شرق جدار الفصل العنصري، أي في المناطق التي ادعى (أولمرت) دائماً بأن إسرائيل تعتزم الانسحاب منها. كذلك تدل المعطيات على أنه، منذ تولي المذكور رئاسة الحكومة تم نشر مناقصات لبناء 2437 وحدة سكنية في الأحياء "الاستيطانية" في القدس المحتلة، مقابل نشر مناقصات مشابهة لبناء 2092 وحدة سكنية خلال السنتين ونصف اللتين سبقتا عهد حكومته. أي أن أولمرت تفوق على سلفه رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أرييل شارون في مجال الاستعمار الصهيوني. وفي هذا كله، الرد الأمثل على كل مدع من القيادات الإسرائيلية بضرورة استمرار المفاوضات باعتبارها الحل الوحيد للشعب الفلسطيني لبناء دولته العتيدة. فرغم ما يمكن تسميته "سنوات الضياع" والتي بدأت منذ أوسلو والتي قضتها الوفود الفلسطينية المفاوضة تحاول عبثاً الوصول إلى تسوية، فإن الإسرائيليين طالما خرجوا على الجميع بما يثبت دائماً استحالة نجاعة المفاوضات. ومع انتهاء فترة الإلهاء الأولمرتية (نسبة إلى أولمرت) من المؤكد أنه لن يكون آخر الإلهاءات الإسرائيلية "صرعة" الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز القاضية بإجراء مفاوضات مع العالم العربي وليس مع الفلسطينيين أو مع السوريين للتوصل إلى سلام شامل. بل إن بيريز هاجم "المفاوضات المنفردة" مع كل من الجانبين الفلسطيني والسوري، معتبراً أن إسرائيل "تدفع من خلالها ثمناً أكبر مما ستدفعه في إطار "سلام إقليمي" مع العالم العربي". صحيح أن مؤتمر "أنابوليس" ضخ ديناميكية جديدة في الحوار الفلسطيني -الإسرائيلي، إلا أن العقبات ما زالت تتوالد كالجراد، وإسرائيل لم تعجز يوماً عن خلق الذرائع للتمويه، والوقائع لتكريس الاحتلال على الأرض. فاسطوانة "انعدام الثقة" الإسرائيلية بقدرة الجانب الفلسطيني على تنفيذ أي اتفاق ما زالت تدور بقوة، فيما تستمر "صدمة كامب ديفيد 2000" كما يراها "شلومو بروم" في مقال له مؤخراً بعنوان "عقدة كامب ديفيد 2000... عائق أم حافز؟"، حيث أكد أنها ما تزال تسيطر على المفاوض الإسرائيلي. ثم أضاف قائلاً: "تحجم إسرائيل بسبب كامب ديفيد عن الدخول فيما يبدو من وجهة نظرها مغامرة مفاوضات حول تسوية دائمة، يمكن أن تفشل وأن تؤدي إلى نتائج سلبية. من هنا تفضل إسرائيل عملية تشمل تسويات جزئية". وهذا صحيح، فمنذ أوسلو أخذ التكتيك الإسرائيلي يتمحور حول الحد من تقديم ما يراه (تنازلات مؤلمة) للفلسطينيين والمحافظة على امتيازات الاحتلال من دون تحمل مسؤولياته وتبعاته الدولية. إضافة لذلك، لا تزال الدلائل المتزايدة تتكاثر على "يهودية" إسرائيل وتزمتها في العلاقة مع فلسطينيي 48 (وما أحداث عكا الأخيرة عنا ببعيدة) وهم الذين سوف يخيرون بعد "التسوية" (إن تمت) بين الولاء الكامل لإسرائيل، أو الرحيل، أو القبول بـ"مواطنة منقوصة"! إن الزخم الذي أوجده "أنابوليس" أضحى سراباً. فخلفية انطلاق المؤتمر كانت، في المقام الأول، تعبيراً عن تقاطع مصالح زعيمين (عباس وأولمرت) تحسسا ضرورة إحراز تقدم ما خاصة بعد المشاكل التي واجهتهما، الأول مع حركة "حماس" وتراجع حركة "فتح"، والثاني مع الهزيمة في حرب لبنان 2006. ففي لقاءاتهما الكثيرة، تحاشى الزعيمان البحث في أعماق المسائل الإشكالية، كاللاجئين والقدس والحدود. لذا حمل الفشل في طياته مخاطر عدة لعل أبرزها (فلسطينياً): توجيه ضربة أخرى لمكانة القيادة الرسمية الفلسطينية وخطها التفاوضي. كذلك، جاء مؤتمر "أنابوليس" من أجل الولايات المتحدة الأميركية نفسها. وفي هذا السياق، كتب "موشيه إلعاد" في مقال بعنوان "مؤتمر من أجل سلام أميركا" يقول: "الحقيقة هي أن الولايات المتحدة بالإجمال تبحث عن إنجاز. فبعد التورط المحرج في المستنقع العراقي، بات من المهم لبوش ورايس صرف الاهتمام الأميركي والعالمي باتجاه حدث تلعب فيه التقنيات الإعلامية دوراً رئيسياً. فالمؤتمر، حاول تغطية حقيقة كون الحدث فارغاً من كل مضمون، وعارياً لناحية إسهامه في العملية السلمية، عن طريق تغليفه بورق سيلوفان أميركي". ثم يضيف: "يعرف الدبلوماسيون الأميركيون، ومساعدو "البطات العرجاء" في واشنطن الذين يقضون أغلب وقتهم هنا في منطقتنا، وهم خبراء في التفاصيل، أن القيادة السياسية في الشرق الأوسط الحالي بعيدة عن أن تكون جاهزة لمؤتمر سلام، وبالتأكيد ليست جاهزة لاتفاق سلام. لكن ما العمل، حينما لا يهتم صاحب الأمر بالمحتوى وإنما بالغلاف؟ إنه من المحزن أن الأميركيين لم يستوعبوا فشل سلطة الأتباع في العراق ولا يزالون واثقين من أنه في بغداد، كما في أفغانستان، يتحقق نجاح كبير. كما أن بوش ورايس لم يتعلما شيئاً من اتفاق "الثقوب" في أوسلو، وها هم يبادرون إلى اتفاق جديد، اتفاق برعاية الرئيس، اتفاق الفراغ". صحيح أن المفاوض الفلسطيني "يعتقد" أنه لا يستطيع رفض التفاوض مهما كانت الظروف، كون كل الدعم الدولي للسلطة مشروطاً، ليس بالوصول إلى تسوية، بل في استمرار التفاوض. لكن من الصحيح أيضاً أن استمرار المفاوضات ضمن الظروف الحالية، هو "حمل كاذب" ولا بديل عن تعليق المفاوضات حتى يتم التوصل أولا إلى صيغة يجري فيها وقف العدوان، و"الاستيطان"، وتبادل الأسرى، ورفع الحصار، وفتح المعابر، وتهدئة متبادلة وشاملة ومتزامنة. ذلك أن استمرار عملية المفاوضات يعطي انطباعاً مضللاً للعالم بأن السلام قادم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. نحن لسنا مع من يقول للمفاوضين إن المفاوضات جريمة لا يمكن أن يغفرها لهم الشعب الفلسطيني، بل ندعوهم لأن يعلنوا صراحة أنها باتت عبثية مطلوب وقفها، أو متابعتها بشروط تنهي أو تجمد المقارفات الاحتلالية الإسرائيلية. لذا، لابد من مراجعة للموقف الفلسطيني برمته، تبدأ بالحوار والتدقيق في الحسابات، والعودة إلى الشعب الفلسطيني ومؤسساته وتنظيماته وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية وكل القوى (من خارجها) التي وافقت على وثيقة الوفاق الوطني، بل والتنسيق مع رموز وقيادات العمل القومي الفكري والإسلامي والتقدمي لمواجهة تحديات المرحلة ومتطلباتها. فاستمرار المفاوضات، وحدها لن يجعل إسرائيل تنظر جدياً للاعتراف بحقوقنا الوطنية المشروعة، ولن يجعلها تعيد لنا القدس، أو أقلها توقف مؤقتاً الاستعمار (الاستيطان) والتوقف عن تحويل الأرض إلى جيتوهات مقطعة الأوصال.