نظمت مؤسسة كارنيغي (فرع لبنان)، وهي من كبريات مؤسسات الدراسات والأبحاث في الولايات المتحدة، ندوة خاصة حول التحديات والفرص أمام السياسة الأوروبية في لبنان وسوريا وفلسطين؛ وقد شاركت في الندوة سفيرة بريطانيا، وسفير الاتحاد الأوروبي، والقائم بأعمال كل من سفارتي فرنسا وألمانيا في لبنان. وقد بدأت الندوة بورقة قدمتها باحثة أوروبية تزور لبنان هي الدكتورة موريل اسيبرغ، تلاها عرض لوجهات نظر الدول الأوروبية من قضايا الشرق الأوسط عامة ومن الدول العربية الثلاث المعنية بصورة خاصة. وكانت هناك تباينات في وجهات النظر، فالسفيرة البريطانية أكدت وجهة نظر المملكة المتحدة باعتبار "حزب الله" منظمة إرهابية، أما سفير الاتحاد الأوروبي، فشدد على الموقف الأوروبي الرسمي الذي يعتبر الحزب حزباً سياسياً لبنانياً. وتوقف السفير أمام ما سمّاه عدم موافقة الولايات المتحدة على الحوار بين الأطراف اللبنانية خلافاً لموقف الاتحاد الأوروبي. ورأى السفير أن الاتحاد كان على حق، بدليل أن الأطراف اللبنانية لم تخرج من دوامة الخلافات إلا بالحوار فيما بينها، وهو ما تقرّ به الولايات المتحدة الآن. ومع هذه التباينات، كانت هناك لغة مشتركة توحي وكأن الدول الأوروبية تقوم بمهمة إنقاذية في الشرق الأوسط. فمن خلال المداخلات التي عرضت بدا وكأن لبنان وسوريا وفلسطين تتحمل وحدها مسؤولية ما يحلّ بها من صعوبات ومن اضطرابات. والواقع أنه لا يمكن إنكار مسؤولية هذه الدول، ولكن ماذا عن المسؤولية الأوروبية؟ لم يطرح هذا السؤال من خلال المداخلات. حتى إن كلمة "مصالح" لم ترد على لسان أي من الدبلوماسيين الأربعة. وكأن الأوروبيين ملائكة، وكأن السياسات الأوروبية هي مهمات رسولية مترفعة عن كل مصلحة. ولذلك أثرتُ أثناء المناقشات هذا الأمر، وتساءلت أليست الدول الأوروبية مسؤولة عن بعض ما حدث ويحدث اليوم في الشرق الأوسط وخاصة في سوريا ولبنان وفلسطين؟ ألا توجد مصالح أوروبية وراء المبادرات السياسية الأوروبية؟ ألا يوجد تنافس مصالح بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة أولى وبين الدول الأوروبية ذاتها من جهة ثانية، ثم بينها وبين الدول العربية من جهة ثالثة؟ ثم ما هو تأثير هذا التنافس على السياسات الأوروبية، وبالتالي على المشاكل التي تعانيها شعوب المنطقة العربية؟ القضية الثانية التي أثرتها أثناء النقاش تتعلق بكون دور المجموعة الأوروبية في الشرق الأوسط ليس تاريخياً فحسب، وإنما هو آني أيضاً. لقد تحدث الدبلوماسيون الأربعة عن موضوع حلّ الصراعات، أو تسوية الصراعات، أو تجميدها أو إدارتها. وأسهبوا في الحديث عن التباينات والاختلافات التي تتعلق بكل صيغة وبكل حالة. وكانت المقاربات كلها تنطلق من مبدأ براءة الذات وإلقاء كل المسؤولية والتبعية على الآخر، والآخر هو الدول العربية. وكأن الأوروبيين لم يشعلوا الخلافات، وكأنهم لم يستثمروها، ولم ينفخوا في رمادها، ولم يوظفوها لخدمة مصالحهم. ومن هنا بدت لي نقطة الضعف الأساسية في الندوة، كما أشرت إلى ذلك في مداخلتي، هي تجنّب أو تهرب- الدبلوماسيين الأوروبيين من أي نوع من أنوع النقد الذاتي لسياسة دولهم في الشرق الأوسط، مما أفقد الندوة قسطاً كبيراً من الموضوعية العلمية. ورداً على الملاحظات التي أبديتها، اعترفت سفيرة المملكة المتحدة بأن لأوروبا مصالح في الشرق الأوسط وبأن لهذه المصالح دوراً أساسياً في توجيه سياستها في المنطقة، وأن من بين هذه المصالح إضافة إلى النفط، الالتزامات المعنوية. وفي هذا الإطار أشارت إلى عبارة رددها رئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير قال فيها: إنه لم يدرك حقيقة القضية الفلسطينية إلا بعد أن غادر موقعه في 10 داونينغ ستريت (مقر رئاسة الحكومة). والواقع أن كثيراً من المسؤولين الأوروبيين وحتى من الرؤساء الأميركيين يرددون مثل هذا القول أيضاً (الرئيس جيمي كارتر نموذجاً). وذهبت السفيرة إلى أبعد من ذلك عندما قالت إن من المصالح الأوروبية أيضاً التصدي للتطرف والأصولية من خلال حلّ القضية الفلسطينية. ولعل الباحثة الأوروبية التي قدمت للندوة الدكتورة موريل اسبيرغ كانت أكثر وضوحاً عندما قالت: "إن تفتيت الضفة الغربية (بالمستوطنات اليهودية وبحواجز التفتيش والجدار العنصري) والانقسام بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" في غزة، أديا إلى تحويل مشروع الحل على قاعدة الدولتين -دولة يهودية ودولة فلسطينية- إلى سراب! ومن خلال ذلك فإنها تبدو وكأنها تحمّل المسؤولية مشاركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في تعثر عملية التسوية. وهي على حق في ذلك هذه المرة. أما الدبلوماسي الألماني مايكل أونماخت فقد شدد على أنه ليس صحيحاً أن الدبلوماسيين هم وحدهم الذين يؤثرون في صناعة القرار السياسي الأوروبي. وهذا صحيح أيضاً. ففي المجتمعات الديمقراطية تلعب مؤسسات المجتمع المدني دوراً أساسياً ومؤثراً. ومنها مراكز البحث في الجامعات والكنائس، والمنابر الثقافية والإعلامية. كان لبنان مركز استقطاب واهتمام المشتركين في هذه الندوة الدبلوماسية. ولعل أبرز مظاهر هذا الاستقطاب تمثل في حديث السفير الأوروبي عن "الفراغ السياسي في لبنان". فقد حذر من أن هذا الفراغ يشجع المتطرفين على انتهاز الفرصة والمبادرة إلى ملئه. وهذا صحيح كذلك. ولكن هناك صناعة للفراغ في لبنان، وليس مجرد انتظار لوقوعه ومن ثم لاستغلاله. غير أن السفير الأوروبي لم يذكر شيئاً عن أسباب الفراغ، وعن القوى والجهات التي تتولى مهمة صناعته، سواء كانت قوى داخلية أو خارجية، أو قوى مشتركة بين الداخل والخارج. ومن تحصيل الحاصل، الإشارة هنا إلى أن السفير الأوروبي لم يتحدث عن المسؤولية الأوروبية في تسهيل وقوع الفراغ، أو في منع استغلاله، أو على الأقل في عدم المشاركة في صناعته! هناك اعتقاد عربي عام تكوّن نتيحة معاناة وتجارب مريرة. يقول هذا الاعتقاد إنه كلما ابتعدت السياسة الأوروبية في الشرق الأوسط عن السياسة الأميركية كلما بدت أوروبا قوة مقبولة ومحترمة ومرحباً بها لما تتمتع به من موضوعية ومن احترام للشرعية الدولية. ولكنها تبقى عاجزة عن معالجة القضية المحورية في المنطقة وهي قضية الصراع العربي- الإسرائيلي نتيجة للفيتو الإسرائيلي على أي مبادرة أوروبية مستقلة، وإنه كلما تماهت السياسة الأوروبية مع السياسة الأميركية، تكون أكثر فعالية، ولكنها أقل موضوعية وأقل إنصافاً للحقوق العربية والفلسطينية. وهذا يعني أن أوروبا المتحررة من الضغوط الأميركية ومن الابتزاز الإسرائيلي، تكون عاجزة. أما أوروبا المثقلة بهذه الضغوط فتكون ظالمة. وفي الحالتين لا يمكن الاعتماد عليها. من أجل ذلك، اقترحت على مؤسسة "كارنيغي" تنظيم ندوة تجمع بين دبلوماسيين أوروبيين وأميركيين لمناقشة التناقضات في السياستَيْـن الأوروبية والأميركية والتي أدّت إلى تعثّر كل مبادراتهما للتسوية، وذلك لإلقاء الضوء على أسباب هذا التعثر المتواصل منذ صدور قرار تقسيم فلسطين في عام 1949 ثم قرار عودة اللاجئين الفلسطينيين رقم 194، وانتهاء بالقراريْن 242 و338. إن الاعتقاد بأن التناقضات الأميركية- الأوروبية في الشرق الأوسط ليست تناقضات حقيقية، وأنها مجرد توزيع أدوار، فيه مبالغة في التبسيط. وقد بدا ذلك واضحاً من قضية الحرب على العراق حيث اتخذت المجموعة الأوروبية بقيادة فرنسا وألمانيا موقفاً معارضاً للحرب، فيما تضامنت بريطانيا وإيطاليا مع إدارة الرئيس جورج بوش. وإذا كان هناك من إجماع أميركي- أوروبي اليوم، فهو على الاعتراف بأن قرار الحرب اتُخذ قبل توفّر أسبابه ومبرراته. ومن أجل ذلك فإن ندوة أميركية- أوروبية قد تفتح الباب أمام آفاق جديدة لدراسة قضايا المنطقة بموضوعية وواقعية خلافاً لما جرى منذ عام 1948 حتى اليوم.