كثيراً ما تتسبب الأزمات العالمية الكبرى في هزات عنيفة تؤثر على العلاقات بين الدول، فبضغط من نظرائه الأوروبيين وافق الرئيس بوش على عقد قمة "بريتون وودز" جديدة في 15 نوفمبر المقبل يفترض أنها تنطوي على أهمية قصوى في المرحلة القادمة. وترجع القمة الأولى لبريتون وودز إلى عام 1944 التي أسست لقواعد جديدة تنظم العلاقات المالية بين الدول، وهو ما ترتب عنه إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين مازالا يقومان بدورهما إلى اليوم. لكن في الوقت الذين يدعو فيه قادة الاتحاد الأوروبي إلى المزيد من الضبط والمراقبة للنظام المالي ومراجعة شاملة للوضع الحالي الذي استقر مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، أبدى صناع القرار في الولايات المتحدة بعض التحفظ واستقبلوا تلك الدعوات بفتور واضح، مشددين على وجوب الحفاظ على رأسمالية السوق الحرة. غير أن هذا الاختلاف بين ضفتي الأطلسي في الرؤى والتوجهات حجب الموضوع الأهم والأساسي المتمثل في كيفية استيبعاب الانتقال التاريخي للقوة الاقتصادية من الغرب إلى آسيا والطريقة المثلى للتعامل مع الواقع الجديد. فباحتسابنا للهند، تضم منطقة شرق آسيا الشاسعة أكثر من نصف سكان العالم، كما أنها مسؤولة عن ثلثي الإنتاج الاقتصادي العالمي ومثله في استهلاك النفط وانبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون مع ترجيح الاستمرار في الصعود والنمو. وعلى مدار القرن الحادي والعشرين سيصل الوزن الاقتصادي والجيوسياسي لآسيا درجة من النمو تنافس ما وصلت إليه أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وسيصبح من العسير التفرقة بين المشاكل الآسيوية ومشاكل العالم بعد أن تتداخل القضايا وتتحول إلى انشغالات عالمية. لذا وفي ظل هذا التغير الدرماتيكي سيغدو صندوق النقد والبنك الدوليان من مخلفات الماضي التي عفا عليها الدهر، حيث كان التحدي الأكبر عندما استُحدثت المؤسستان هو ضمان تدفق الرأسمال الأميركي باتجاه أوروبا التي دمرتها الحرب. بيد أن الأيام التي كانت فيها الولايات المتحدة دولة دائنة ولت إلى غير رجعة ولم يعد لها وجود، بل باتت أميركا تمول عجزها الكبير في الموازنة من خلال استيراد ما يناهز تريليون دولار من رؤوس الأموال كل سنة. وقد حازت الصين واليابان لوحدهما على أكثر من 600 مليار دولار من السندات التي أصدرتها مؤسستا"فاني ماي" و"فريدي ماك"، وهو ما يجعل إنقاذهما مسألة ذات أبعاد دولية لها علاقة وثيقة بالسياسة الخارجية الأميركية. لكن رغم هذه التغيرات الكاسحة التي ظهرت على الساحة الدولية، والحقائق العالمية الجديدة مازالت مؤسستا بريتون وودز على صيغتهما القديمة ومازال الغرب يمهمين على مقاليد الأمور داخلهما، حيث جرى العرف أن يتولى أميركي قيادة البنك الدولي في حين يعهد لشخصية أوروبية رئاسة صندوق النقد الدولي، كما أن الولايات المتحدة هي الوحيدة التي تملك حق الفيتو داخل المؤسستين معاً. وبتحليل لحصص التصويت المخصصة للدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي نجد أن قوى الحلفاء الذين خرجوا منتصرين من الحرب العالمية الثانية يحظون بتمثيل أكبر مقارنة بقوى المحور، رغم مرور أكثر من ستين عاماً على نهاية الحرب. هذا التمثيل غير المتوازن كان له انعاكاسات مباشرة على الأزمة المالية التي ضربت الدول الآسيوية خلال عامي 1997-1998 عندما انتهج صندوق النقد الدولي، كجزء من برنامجه الإنقاذي، سياسات اعتبرت مناقضة لمصلحة البلدان المتضررة. وقد وصل الحد بتلك الدول أن دعت اليابان إلى إنشاء صندوق آسيوي للنقد كمصدر بديل لتوفير السيولة، لكن الولايات المتحدة رفضت المقترح بسبب تخوفها من إضعاف صندوق النقد الدولي وظهور مؤسسات بديلة تنازعه دوره، ومع ذلك نجحت البلدان الآسيوية على مدى العقد الأخير في مراكمة مخزون هائل من العملة الأجنبية واستطاعت تطوير نوع من التعاون الإقليمي قد يفضي في النهاية إلى إنشاء صندوق نقد بديل أكثر مصداقية. والواقع أن الوقت قد حان لإصلاح صندوق النقد والبنك الدوليين ليعكسا على نحو أفضل مصالح القوى الاقتصادية الصاعدة وانشغالاتها، بحيث يتعين إعادة توزيع حصص التصويت لتمثيل الواقع الاقتصادي الجديد. وفي هذا الإطار يتعين تغيير قواعد اتخاذ القرار داخل المؤسستين لإعطاء وزن أكبر للفاعلين المحليين كي يشاركوا في صياغة الأجندة الاقتصادية للعالم، فإذا كانت مصلحة الولايات المتحدة تقتضي إقراض المكسيك، فإن اليابان من جهتها قد تجد مصلحة أكبر في إقراض إندونيسيا، كما أن توزيع المناصب العليا يجب أن يخضع للتنافس ومبدأ تكفافؤ الفرص، بالإضافة إلى ضرورة التخفيف من مركزية المؤسستين اللتين تتخذان من واشنطن مقراً لهما. فيليب ليبسي ـــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"