شهدت الأعوام الأخيرة تزايداً في الاهتمام بالحالة النفسية للنساء أثناء فترة الحمل، نتيجة تزايد الشكوك في أن الاضطرابات النفسية، حتى ولو لم تكن شديدة الحدة، تترك بصماتها في النهاية على الحالة الصحية لكل من الأم والجنين. وهي الشكوك التي تأكدت الأسبوع الماضي، مع نشر دراسة في العدد الأخير من إحدى الدوريات المتخصصة في الإخصاب البشري (Human Reproduction Journal)، كان قد أجراها أطباء إحدى المؤسسات الصحية في كاليفورنيا، وخلصت إلى أن النساء اللواتي يعانين من الاكتئاب أثناء الحمل، يلدن أطفالهن مبكراً، أو يقع لهن ما يعرف بالولادة المبتسرة، وبمعدل يبلغ ضعف حالات الولادة لدى النساء اللاتي لا يعانين من الاكتئاب. فمن خلال متابعة 791 امرأة أثناء حملهن، تعرضت للولادة المبكرة 4% ممن لا يعانين من الاكتئاب، و6% ممن يعانين من اكتئاب بسيط، و8% ممن يعانين من اكتئاب شديد. وهو ما يؤكد نتائج دراسة سابقة، صدرت عن مستشفى "كنجز كوليج" ببريطانيا، وأظهرت أن تدهور الحالة النفسية للأم أثناء الحمل، وخصوصاً إصابتها بالاكتئاب، يعتبر أحد عوامل الخطر خلف الولادة المبكرة. ويعرِّف الأطباء الولادة المبكرة، على أنها حالات الولادة التي تتم قبل إتمام سبعة وثلاثين أسبوعاً من الحمل، على أساس أن الحمل الطبيعي يستمر فترة أربعين أسبوعاً. وتنتشر حالات الولادة المبكرة بدرجة كبيرة، ففي الولايات المتحدة مثلاً يولد 12% في المئة من الأطفال، أو واحد من كل ثمانية، قبل إتمام فترة الحمل الكاملة، وهو ما يترجم في النهاية إلى أكثر من نصف مليون حالة ولادة مبكرة في العام الواحد. وعلى رغم أن الكثير من عوامل الخطر التي تسبب نهاية الحمل بشكل مبكر هي عوامل معروفة وموثقة، فإن قرابة نصف الحالات تحدث دون سبب واضح خلفها. ومن عوامل الخطر تلك، نذكر: 1- وجود تاريخ سابق للولادة المبكرة أو الإجهاض. 2- الحمل بتوأمين أو أكثر. 3- وجود تشوهات تشريحية في الرحم أو عنق الرحم. 4- الإصابة ببعض الأمراض المزمنة، مثل ارتفاع ضغط الدم، وداء السكري، وقصور الكليتين. 5- حدوث عدوى في الرحم أو في عنق الرحم، مثل العدوى ببعض الأمراض التناسلية. 6- التدخين، وتناول الكحوليات، وإدمان المخدرات. 7- حدوث الحمل قبل سن الثامنة عشرة، أو بعد سن الخامسة والثلاثين. 8- سوء التغذية أثناء الحمل. 9- حدوث نزيف أثناء الحمل. 10- الإصابة بتسمم الحمل. ولكن على رغم هذه القائمة الطويلة من الأسباب، لازالت نصف حالات الولادة المبكرة مجهولة السبب كما ذكرنا. وهذه النسبة الهائلة ربما يكون مردها، حسب الدراستين السابقتين، إلى الاضطراب الهرموني الذي يترافق مع الاكتئاب، والذي ينتشر بمعدلات أكبر مما يعتقد الكثيرون. حيث تشير التقديرات الدولية إلى أن 16% من البشر يصابون في فترة من فترات حياتهم بالاكتئاب المرَضي. ففي الولايات المتحدة مثلاً، نجد أن الاكتئاب يصيب 6.5% من النساء الأميركيات. أما في كندا، فيعاني 5% من السكان من الاكتئاب المرَضي. وفي بريطانيا يصاب شخص واحد من بين كل خمسة أشخاص بالاكتئاب المرضي في مرحلة ما من حياته. وإذا ما استخدمنا الأرقام السابقة، للاستدلال على مدى انتشار الاكتئاب الإكلينيكي في الدول الأخرى، يمكننا الاستنتاج بأن هذا المرض يصيب عشرات الملايين وربما مئات الملايين حول العالم، نصفهم طبعاً من النساء. ويشك الأطباء في أن الاكتئاب إما أنه يؤدي إلى زيادة في مستوى الهرمون المسؤول عن بدء عملية الولادة، أو الطلق، أو إلى زيادة مستوى هرمون آخر (corticotrophin-releasing hormone). هذا الهرمون الذي يفرز طبيعياً من المشيمة، تزداد نسبته أيضاً في الدم عند التعرض للتوتر، وللضغوط النفسية، والاكتئاب. ويعتقد الأطباء أن اختلال مستويات هذه الهرمونات، يدفع جسم المرأة إلى البدء في عملية الولادة قبل أن يحين ميعادها الطبيعي. وتكمن مشكلة الولادة المبكرة في أنه كلما قصرت فترة الحمل، كلما زادت مخاطر تعرض المولود الجديد للعديد من المضاعفات والمشاكل الصحية الخطيرة، مثل الشلل المخي، وأمراض الرئتين المزمنة، ومشاكل الجهاز الهضمي، بالإضافة إلى التخلف العقلي، وفقدان السمع والبصر. وهذه المشاكل الصحية تظهر نفسها بشكل جلي، من خلال الارتفاع الواضح في معدلات الوفيات خلال العام الأول بين هؤلاء الأطفال، المعروفين بالأطفال الخدج. ولا تقتصر مضاعفات توتر واكتئاب المرأة عند الولادة المبكرة فقط، بل تمتد إلى سنوات طويلة من عمر طفلها. حيث أظهرت الدراسات أن أطفال النساء اللواتي كن يعانين من الاكتئاب والتوتر أثناء حملهن، ظلوا يعانون من مستويات مرتفعة من هرمون يرتبط بالتوتر (Cortisol) حتى سن العاشرة. وهو ما دفع البعض للاستنتاج بأن الحياة العصرية بما فيها من ضغوط يومية مستمرة، وبسبب انتشار الاكتئاب بمستويات غير مسبوقة حالياً بين أفراد الجنس البشري، ولدا عدداً هائلاً من الأطفال لأمهات كن متوترات ومكتئبات أثناء حملهن، وهو ربما يفسر تزايد حالات الاضطرابات النفسية بين أطفال الجيل الحالي، مثل اضطراب فقدان التركيز وفرط النشاط (ADHD) أو انتشار السلوك الاجتماعي العدائي (Sociopathic Behavior) والإجرامي أحياناً، بين مراهقي هذا الزمن. وهو ما سيتطلب منا إعادة تفسير قول الشاعر بأن: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق. د. أكمل عبدالحكيم