تطرق منتدى "الاتحاد" السنوي الذي عقد بالعاصمة أبوظبي في الأسبوع الماضي تحت عنوان "الدين والمجتمع في العالم العربي" إلى العديد من القضايا المعاصرة والمهمة المتعلقة بالعلاقة الشائكة والمعقدة بين التطورات الاجتماعية ومواقف مختلف التيارات، بما فيها التيارات الدينية من الاستقرار ليس في العالم العربي وحده، وإنما في مختلف بلدان العالم كذلك. ولاشك أن الاستقرار الذي تطرق إليه المنتدى يمس بصورة مباشرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي، فإن أية أعمال متطرفة تطال هذا الاستقرار لابد وأن تجد لها انعكاسات سلبية على معدلات التنمية والاستثمار والبطالة وتدني مستويات المعيشة، والأمثلة هنا لا تعد ولا تحصى، ابتداء من لبنان مروراً بالصومال وصولاً إلى العراق وأفغانستان. والحال، أن التطرف يقود إلى التخريب، ولا نقصد هنا التخريب العنيف وحده، وإنما التخريب الاقتصادي من خلال اتخاذ قرارات متطرفة تؤدي إلى تراجع الإنتاج وتدني إنتاجية العاملين ونقص السلع والخدمات في المجتمع. وحتى لا نسير بعيداً في أعماق التاريخ لنتذكر ما قاد إليه التطرف من مآسٍ في القرن العشرين، الذي بدأ بتأميم أراضي الفلاحين بصورة غير مهنية وتحويلها إلى "كولخوزات" أو جمعيات زراعية من قبل جوزيف ستالين ما أدى إلى انتشار المجاعة وموت ملايين الفلاحين في روسيا الذين فقدوا أراضيهم بعد مصادرتها وتحويلها إلى ملكية جماعية لم تلب من خلالها احتياجات المجتمع الأساسية، وبالأخض الاحتياجات الغذائية. وتلا ذلك بعد سنوات وصول النازية المتطرفة إلى سدة الحكم في ألمانيا بقيادة أدولف هتلر، والتي قادت كما يعرف الجميع إلى الحرب العالمية الثانية وموت أكثر من خمسين مليوناً من البشر الأبرياء وتدمير اقتصادات مختلف بلدان العالم. لنصل إلى بعض أخطاء الثورة الثقافية في الصين التي أدت إلى محاصرة المدينة من قبل القرية وفقدان طاقات علمية ومهنية كفؤة، علماً بأن المدينة هي مركز النشاط الثقافي والعلمي، وعادة ما تكون أكثر تقدماً من القرية التي تعتمد على الإنتاج الزراعي. أما في العقود الثلاثة الماضية، فقد رأينا كيف دمر التطرف منشآت اقتصادية مهمة في بعض البلدان العربية، كالجزائر ولبنان والسعودية، وأساء إلى القطاع السياحي في مصر الذي يعتبر أحد أهم مصادر الدخل القومي ويوفر مئات الآلاف من الوظائف هناك. وفي العقد الحالي تدنى المستوى المعيشي وارتفعت معدلات البطالة في إيران في فترة نجاد ووجهت موارد إيران نحو الإنفاق العسكري الباهظ وغير المنتج بعد أن شهدت فترة خاتمي المعتدل تحسناً في مستويات المعيشة وتدفقاً لرؤوس الأموال، وذلك على رغم أن أسعار النفط أثناء حكم نجاد تعادل أربعة أضعاف الأسعار في فترة خاتمي. وإذا ما أخذنا الفكر المتطرف لـ"المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة، فإنه يمكننا سبر غور بعض أسباب الأزمة المالية التي تعصف ببلدان العالم في الوقت الحاضر والتي فقد بسببها ملايين البشر مدخراتهم، كما أحيل ملايين آخرون إلى صفوف العاطلين عن العمل. ولهذه الأسباب مجتمعة حرص المساهمون في منتدى "الاتحاد" على التأكيد على أهمية الاعتدال في التعامل مع قضايا المجتمع مسترشدين في ذلك بدعوة كافة الأديان السماوية، بما فيها ديننا الإسلامي الحنيف إلى الوسطية والاعتدال. ولذلك تكتسب قضية معالجة أسباب التطرف أهمية استثنائية في العصر الراهن، وذلك لارتباطها الكبير بقضية الاستقرار والتنمية الاقتصادية، فالتقدم التقني والمعلوماتي وفر سرعة غير عادية لانتقال رؤوس الأموال بين بلدان العالم التي تبحث عن الاستقرار أولاً وعن فرص الاستثمار ثانياً. فهناك العديد من البلدان التي تتوفر فيها فرص استثمارية جاذبة، إلا أن غياب الاستقرار يفوِّت عليها الاستفادة من هذه الفرص، وبالتالي توفير آلاف فرص العمل لمواطنيها. إن معالجة ظاهرة التطرف أمر ممكن من خلال معالجة أوجه الخلل، ابتداء من المدرسة والمنهج الدراسي، كما أكد العديد من المشاركين، فالمهنية في التعليم تؤدي إلى تقديم مناهج دراسية علمية وتأهيل الدارسين لمتطلبات التنمية، كما أن تحسين مستويات المعيشة أمر في غاية الأهمية للقضاء على بؤر التوتر الاجتماعي. وبالنتيجة فإن منتدى "الاتحاد" تطرق إلى موضوع مهم يتطلب إعطاءه المزيد من الاهتمام من قبل مراكز الدراسات والبحث العلمي في البلدان العربية والعالم، فالتطرف شمالاً ويميناً يقود إلى الخراب وتبذير الموارد التي وهبها الله سبحانه وتعالى للبشر لتعمير الأرض بدلاً من تدميرها، كما أنه يؤدي إلى فقدان الاتجاهات والمتاهة، وخير دليل على ذلك موقف موسى أبو مرزوق من الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الذي أساء إليه وإلى حركته قبل أي شيء آخر. د. محمد العسومي