تعددت التفسيرات الاقتصادية بصدد أزمة الرأسمالية الأميركية. وقد طرحت تفسيرات متنوعة اختلفت بحسب نوع الأسئلة المطروحة. أولًا، هل هي مجرد أزمة مالية أم هي أزمة الرأسمالية ذاتها باعتبارها مذهباً اقتصادياً أتيح له أن يطبق عبر قرون ممتدة، شهدت نجاحاً ساحقاً له، وإن كان قد تعثر في التطبيق في مراحل تاريخية محددة سادها الكساد وغيره من الأزمات. يرى بعض المدافعين عن الرأسمالية أنها مجرد أزمة مالية، ولعل هذا التوصيف يضع التصريح الجريء لساركوزي رئيس الجمهورية الفرنسية في موضعه حين قال "انتهى عصر الرأسمالية المالية"! أم هي -على العكس- أزمة شاملة للرأسمالية؟ لقد أجاب على هذا السؤال بالنفي "بيل جيتس" أغنى رجل في العالم وصاحب شركة "ميكروسوفت" الشهير، وذلك في مقابلة تلفزيونية أجراها معه الكاتب السياسي المعروف فريد زكريا. وقد أجاب "بيل جيتس" في المقابلة التي نشر مضمونها على شبكة الإنترنت في 6 أكتوبر 2008 حين سئل: "هل نحن نواجه أزمة للرأسمالية؟" فنفى ذلك بلا قاطعة. وأضاف: هذه أزمة مهمة، ومن المهم أن تسير الأمور إلى الأمام بمعنى أن تواصل الأسواق عملها، وقرر أن الاقتصاد قد يهبط بطريقة ما، ولكن ليس هناك كساد كبير قد حدث، والدليل على ذلك أن حجم الاستثمارات اليوم أكبر مما مضى. غير أن رأي "بيل جيتس" يمثل رأي الأقلية التي ترى أن ما حدث هو مجرد أزمة طارئة سرعان ما سيبرأ منها الاقتصاد الأميركي، وذلك لأن هناك غالبية من المفكرين يرون على العكس أن ما حدث يمثل أزمة حقيقية للرأسمالية. وإن كانوا يختلفون حول ما إذا كانت الرأسمالية تستطيع من خلال إجراءات وسياسات جديدة النجاة منها، أم أنها نهاية نهائية -بالمعنى التاريخي للكلمة- للرأسمالية كنظام اقتصادي، وإن كان لا تبدو في الأفق أي ملامح واضحة لنظام اقتصادي بديل. وما نشهده الآن في المرحلة الحرجة التي تمر بها الرأسمالية ليس أكثر من ابتلاع المؤسسات القوية للمؤسسات والشركات الضعيفة. وليس من السهل أن نتنبأ بمصير الرأسمالية، غير أنه يمكن التأكيد أنها إذا استمرت باعتبارها نظاماً رأسمالياً كونياً، فإن النتيجة ستكون العجز عن وضع ضوابط للنشاط الرأسمالي، وزيادة النزعة الاحتكارية والنفوذ السياسي. وقد استطاع عالم الاقتصاد الأميركي "جوزيف ستجليتز" الذي سبق له أن فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد، أن يضع يده على المفارقة الرئيسية في خطة حكومة الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ البنوك والشركات الرأسمالية. وتتمثل هذه المفارقة في أن النموذج الرأسمالي نفسه قد سقط سقطة مدوية أمام أنظار العالم، لأنه قام أساساً على كف يد الدولة في التدخل في المجال الاقتصادي وترك السوق حراً طليقاً، يوازن نفسه بنفسه من خلال آلية العرض والطلب. وقد شجعت الولايات المتحدة الأميركية عديداً من الدول في مختلف أنحاء العالم، بل وضغطت عليها ضغطاً شديداً من خلال البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لكي تطبق النموذج الرأسمالي الأميركي بالكامل. وكما يقرر ستجليتز لقد فقدت الولايات المتحدة الأميركية مصداقيتها بعد أن ضخت أموالاً هائلة لإنقاذ المؤسسات الرأسمالية الأميركية، بل وارتكابها الخطيئة الكبرى التي طالما نددت بها وهي اللجوء إلى تأميم المؤسسات الاقتصادية. وأياً ما كان الأمر، فإنه إذا تركنا تضارب التفسيرات الاقتصادية جانباً وأهمها: هل هي أزمة عابرة ستنجو منها الرأسمالية أم هي نهاية -بالمعنى التاريخي للكلمة- لهذا النظام، فيبدو أننا في حاجة إلى تحليل ثقافي للأزمة يلقي الضوء على جوانبها المعتمة، التي لا تستطيع -بحكم طبيعتها القاصرة- أن تضيئها التفسيرات الاقتصادية التقليدية، سواء صدرت من أهل اليمين أو من أنصار اليسار. وقد لفت نظري تحليل ثقافي متعمق نشره على شبكة الإنترنت بتاريخ 19 سبتمبر 2008 "لورنس فيلفل" بعنوان: "أزمة للرأسمالية الأميركية". والكاتب يشغل مناصب أكاديمية رفيعة المستوى، فهو عميد كلية الحقوق في ماساشوسيتس، وكان أستاذاً للقانون فترة طويلة. وهذا القانوني البارع التفت بذكاء إلى قصور التفسيرات الاقتصادية للأزمة، ولذلك لجأ إلى التحليل الثقافي الذي ندعو لممارسته منذ عام 1990 في عديد من دراساتنا وكتبنا المنشورة، وآخرها "الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي" على أساس أن التفسيرات السياسية والدولية والاقتصادية التقليدية ثبت فشلها في تفسير العديد من الظواهر التي يزخر بها العالم المعاصر وخصوصاً بعد بروز العولمة باعتبارها العملية التاريخية الأساسية التي غيرت عديداً من ملامح المجتمعات المعاصرة. ماذا يقول فيلفل في تحليله الثقافي للأزمة؟ يقرر بكل وضوح أن المرء ليس ضرورياً أن يكون اشتراكياً -وهو ليس كذلك- لكي يدرك أن الأزمة الرأسمالية ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي في المقام الأول أزمة ثقافية. وذلك لأنها تكشف عن فشل الثقافة الأميركية السائدة والتي تبلورت منذ عهد الرئيس ريجان، وتقوم على دعامتين: النزعة العسكرية من ناحية، والجشع الذي لم توضع له أية قيود للحد منه! إن النزعة العسكرية في أوجها هذه الأيام في الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أنه في العراق وفي عديد غيره من الأقطار هناك بين 700 و1100 قاعدة عسكرية أميركية (والرقم الحقيقي سر من أسرار البنتاجون) وهذه القواعد تتبع لها بوارج عسكرية تقوم بدوريات بحرية منتظمة في كل بحار العالم! وذلك لأن مذهب "بوش" و"تشيني" هو أنه لابد لنا أن نتدخل على صعيد العالم كله! ولو نظرنا إلى ميزانية البنتاجون لوجدنا أنها تصل إلى حوالى 500 بليون دولار سنوياً، وهي بالتالي أكبر ميزانية دفاع في العالم. غير أنه بالإضافة إلى النزعة العسكرية الغلابة، هناك أيضاً نزعة الجشع بلا حدود، الذي تمارسه البنوك والشركات الرأسمالية الأميركية وطبقة رجال الأعمال من الملاك والمديرين. والدليل على ذلك هي الأزمة في المجال العقاري التي هي في جوهرها خلق اقتصاد افتراضي جنت منه الشركات والبنوك أرباحاً تقدر ببلايين الدولارات، على حساب المواطنين الأميركيين من أعضاء الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة، التي وثقت في وعود هذه البنوك، واقترضوا بحثاً عن السكن الملائم، ثم نتيجة للارتفاعات الهائلة في أسعار الفائدة، فشلوا في سداد أقساطهم، وأصبح طردهم من مساكنهم أمراً مقضياً لا مهرب منه! إن هذه الثقافة الأميركية الفاشلة التي روج لها المفكرون المحافظون الذين يعملون مباشرة في خدمة القوى الرأسمالية، ويشاركونها الأرباح الخيالية هي المسؤولة عن سيادة اتجاه الجشع وعدم الأمانة والخداع، والذي أصبح أسلوباً للحياة في الولايات المتحدة الأميركية. ويكفي أن نشير بهذا الصدد إلى ما نشرته المصادر الأميركية من أن مدير أحد البنوك التي أفلست وتهاوت وتدخلت الحكومة الأميركية لإنقاذها، تقاضى في العام الماضي فقط راتباً قدره 475 مليون دولار! وعلى القارئ أن يتأمل في هذا الرقم، لكي يدرك أن هذه الرأسمالية الأميركية تقوم في الواقع على أساس النهب المنظم لأموال المودعين، بالإضافة إلى الحصول بطرق غير مشروعة على عقود ببلايين الدولارات، كما حدث في العراق، حين "أقطعت" شركة هاليترون التي أدارها من قبل "تشيني" نائب رئيس الجمهورية الأميركية سنوات طويلة قبل أن يتولى منصبه السياسي، عقوداً لإعادة الإعمار تقدر بالبلايين. وبعبارة موجزة فإن التحليل الثقافي للرأسمالية الأميركية يمكن أن يساعدنا على فهم أسباب الأزمة ومصير الاقتصاد الأميركي. وهناك ملاحظة أخيرة. ألم يسبق للرئيس أيزنهاور في خطبة الوداع قبل أن يعتزل أن حذر الشعب الأميركي من "المركب العسكري الصناعي" الذي يسيطر على المجتمع الأميركي كله، والذي هو وراء كل الحروب العدوانية التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية؟ نحن في حاجة إلى قراءة تاريخ الولايات المتحدة برؤية نقدية، لكي نؤمن أن ما حدث أمر طبيعي، ولكنه -بمنطق التاريخ- لن يستمر إلى الأبد!