في رده على الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، المفكر الإسلامي المعروف، يُعبّر الشيخ يوسف القرضاوي عن أساه لموقف أصدقائه المصريين المقربين مثل البشري والعوا وهويدي، الذين تخاذلوا عنه، ولم يساندوه في موقفه المستنكر للغزو الشيعي لمصر واختراقه المجتمعات السنية، ولم يتجاوبوا مع تحذيراته من مخاطر هذا التشيع المذهبي، بل قاموا بالرد عليه، نافين وجود أي اختراق مذهبي أو مهوّنين من شأنه، فهو إذ يخاطب أبوالمجد يصف هؤلاء الأصدقاء بـ"المفتونين" بإيران و"حزب الله"، ويقول: "كنت أود من الدكتور أبوالمجد، أن يوجه رسالته إلى المفتونين بإيران وحزب الله من قومنا، بل من أصدقائه وأصدقائي، الذين يعزّ عليّ أن أراهم في موقف يفتقد الشرعية". ويبدي الشيخ ألمه لموقفهم، إذ "لم تحدثهم أنفسهم بكلمة نقد يوجهونها للذين أسفّوا -من الإسفاف- في خصومتهم معي، وافتروا عليّ بالباطل، فخذلوني حيث تجب النُصرة". واضح من كلامه أن الشيخ يرى نفسه في "معركة" تستوجب "الفزعة" و"النُّصرة" من الأصدقاء ومن جماعة "الإخوان" في مصر، وبخاصة أنه أكبر مرجعية لهم، بل إنه كان يتوقع مساندة من الأزهر ومن مجمع البحوث الإسلامية باعتباره عضواً فيه -قيل إنه قدم استقالته من المجمع احتجاجاً على تخليه عنه- ولهذا نجد الشيخ يتمثل بقول الشاعر: إخوان حسبتهمو دروعاً ..... فكانوها، ولكن للأعادي وخِلتهمو سهاماً صائبات .... فكانوها، ولكن في فؤادي لقد كانت صدمة الشيخ كبيرة، واعتبرها "طعنة" من أصدقائه القدامى وبخاصة المستشار طارق البشري الذي كتب في "الدستور" المصرية (9/27) أن تصريحات القرضاوي تصب لصالح السياسية الأميركية -الإسرائيلية في محاصرة "حزب الله" وضرب النظام الوطني في إيران، وكذلك مهدي عاكف مرشد "الإخوان" الذي قال: "إن من يتحدث عن أجندة إيرانية لاختراق المنطقة، إنما يتحدث بلسان أعداء الأمة"، وغيرهما من الذين يرددون مقولة: الخطر الإيراني دعاية صهيونية -أميركية، يُقصد بها عزل إيران وحصارها، ونشر الفُرقة الطائفية بين المسلمين. يتصدى القرضاوي في الرد عليهم بقوله: إن على هؤلاء أن يرفعوا الغشاوة عن أعينهم وأن ينزعوا أصابعهم من آذانهم، ليبصروا ويسمعوا ما يجري في المجتمعات السنية من حولهم، فالشيعة أصبحوا ينشطون ويتحركون ولهم صوت مسموع، ويطمعون أن يزدادوا ويكثروا، ويسعون إلى أن ينموا ويتوسعّوا "ومن يستريب في قولي فلينظر إلى مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وفلسطين...إلخ"، ويؤكد رفضه للغزو الشيعي وفي نفس الوقت وقوفه ضد الطغيان الأميركي والعدوان الصهيوني، وتأييده المقاومة -بكل قوة- ضد الصهاينة والأميركيين في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان (لم يذكر الخليج مع أن الأميركيين أكثر تواجداً ونفوذاً فيه!). وينعى القرضاوي عليهم، أخذهم منه، فقه "الموازنات" و"الأولويات" ثم محاججتهم به ضده، بقولهم: إن التوقيت غير مناسب لطرح الموضوع أو أن الأولى طرحه في اجتماع مغلق على العلماء، فيرد عليهم بالقول إنهم لم يحسنوا "تنزيل الفقه على الواقع" لأن البلاء الذي لا يمكن تداركه بعد وقوعه -تحول السني إلى شيعي- مقدّم على البلاء الذي يمكن تداركه. وهو يخاطب أبوالمجد: "أنا النذير لقومي يا دكتور، والنذير لا يجلس في غرفة مغلقة ويصيح". وفي ختام خطابه يُبدي دهشته، لأن الشيعة سكتوا وتركوا أهل السنة يرد بعضهم على بعض، هم يتفرجون بينما "نفر من السنة، ولاسيما في بلد الأزهر هم من ركب جواده وامتشق سلاحه، دفاعاً عن الشيعة المظاليم"! رد الشيخ القرضاوي على خطاب أبوالمجد المنشور في "الدستور" المصرية (9/30) طويل، وهو بالمناسبة لم يرد على أحد من أصدقائه غير أبوالمجد، تقديراً له، وإن تضمن الرد، رداً غير مباشر على أصدقائه عامة. ولكن يلاحظ علي رد القرضاوي أمران: الأمر الأول: وصفه لأصدقائه بـ"المفتونين" بإيران و"حزب الله"، وهو وصف يذكرنا بما درج عليه، كتَّاب "الإخوان" وغيرهم وعلى مدى عقود طويلة، في وصفهم لدعاة الحداثة والليبراليين -عامة- بـ"المنبهرين" بالغرب وحضارته، بهدف التشهير بهم والتنفير منهم والتحريض عليهم، ومع أنه لا يوجد في صفة "الانبهار" ما يستوجب الذم أو الملامة، إلا أن السياق العام للوصف، يومئ إلى استحقاق من يتصف به، المؤاخذة والذم، ولذلك كان الحداثيون يحاولون دائماً نفي تهمة "الانبهار" عن أنفسهم وتأكيد منطلقاتهم الوطنية والقومية، ولعل أول من كسر هذا التابوه، وتجرأ وصرح بانبهاره بحضارة الغرب، المفكر السعودي إبراهيم البليهي، بل وقال: "إن من لا ينبهر بالحضارة الغربية، وما وصلت إليه، يعاني من جمود في الإحساس، وضعف في الذوق، وهزال في الإدراك". ولكن إذا كانت حضارة الغرب، قد قدمت ما يُبهر ويفتن، وما يستحق الإعجاب والاقتداء، فماذا قدمت الثورة الإيرانية خلال 30 عاماً، سوى البؤس لشعبها، وتغذية الإنقسام العربي والفرقة بين "حماس" و"فتح"، ودعم الحركات المتمردة على أنظمتها بهدف زعزعة الاستقرار في المنطقة العربية؟! تُرى ماذا في هذه الأمور المقوّضة للجهود العربية ما يستحق الإعجاب والافتتان؟ ودعونا نسترسل في التساؤلات: إذا كان ثمة افتتان بالنموذج الإيراني أو بـ"حزب الله"، فمن الذي مكّن لهما في الساحة العربية؟ مَن الذي روّج للنفوذ الإيراني في المنطقة؟ مَن الذي ساعد على إنجاح المشروع الإيراني حتى أصبح متغلغلاً في عقر دار العرب؟ مَن غير "اللوبي" الإيراني في المنطقة؟ هذا "اللوبي" المتحالف مع إيران ضد ما أسموه "المشروع الأميركي" في المنطقة، والمكوّن من شبكة من المتحولين السياسيين والإعلاميين والنخب الفكرية، إضافة إلى جماعات سنية أبرزها "الإخوان" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" وحركات معارضة ترفع شعارات إسلامية وبالطبع جماعات شيعية أبرزها "حزب الله" اللبناني وأفرعها في المنطقة غير الجماعات الدينية في العراق، بل إن إيران أصبحت اليوم، لها "اليد العليا" على الجماعات السنية السياسية، ولذلك لن ينجح حوار "حماس" و"فتح" في مصر إلا بالتفاهم مع إيران أولاً، إيران استطاعت اختراق العمق العربي عبر شراء الولاءات السياسية والدعم لشخصيات وأقلام إسلامية وقومية بل وحتى خليجية، ولا أدل من تصريح مفكر خليجي لمجلة بقوله: "المبهورون بالأجنبي، صهاينة جدد، والمفارقة أن نتصل بإسرائيل ونرفض الحوار مع إيران"، والمفارقة الحقيقية أن هذا المفكر يعيش حياة غربية! لقد وصل تضليل هذا "اللوبي" للجماهير العربية، أن استطلاعاً لمؤسسة (زغبي) أظهر أن غالبية من شملهم الاستطلاع في المنطقة، رأت أن إسرائيل وأميركا، أكبر خطر على المنطقة، مقابل 7? فقط قالوا إن إيران تشكل خطراً، وعبّر 67? عن تأييدهم تملك إيران للسلاح النووي! ثم ألم يكن الشيخ القرضاوي مسايراً ومباركاً لهذا الوضع قبل فزعته الأخيرة؟ الأمر الثاني: يطوّر القرضاوي موقفه من الخطر "المذهبي" إلى "السياسي" فيقول: إن هذا الخطر وراءه دولة لها أهدافها الاستراتيجية في التوسع، ويشير إلى تغلغل النفوذ الإيراني عبر حلفاء إيران وأذرعها. والملاحظ أن هذا التحول الطارئ على موقف القرضاوي من الخطر الإيراني، أمر غير معهود في تصريحاته السابقة، فهذه أول مرة يحذر فيها من "التشيع السياسي" مع أنه في تحذيراته الأولى كان يركز على "التشيّع المذهبي" فحسب، وهذا ينبئ بانشقاق الشيخ على أصدقائه (الإخوان) الذين يباركون التشيع السياسي لإيران ويؤكدون تحالفهم معها، ويوثقون "صلة رحم" سياسية بين حركتهم وإيران و"حزب الله" و"حماس". لقد تكشفت للقرضاوي أبعا الدور الإقليمي لإيران مستغلاً ضعف النظام الإقليمي العربي، وهي استفاقة وإن جاءت متأخر إلا أنها جديرة بالتأييد في شقها "السياسي".